مصفاة للنفط ومصفاة للقلوب

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٤/أكتوبر/٢٠١٨ ١٢:١٠ م
مصفاة للنفط  ومصفاة للقلوب

دخلتْ إلى مكتبي مساعدتي التنفيذية، لُتعلمني بأنها لم تتمكن من حجز ثمانية مقاعد على متن رحلة الطيران العماني من مطار مسقط إلى مطار الدقم، لأنها أصبحت محجوزة بكاملها.

فرحت ضمناً لا لأنني أفضّل السفر في السيارة، بل لأن ذلك يعني أن الأمور في الدقم صارت طيبة! لقد بدأت حركة تنقل المهندسين والفنيين والمستثمرين والسائحين تزداد يوماً بعد يوم، ومن المشاريع الضخمة التي حرّكت وستحرك المنطقة الاقتصادية، هو مشروع مصفاة الدقم وما سيحتاجه هذا المشروع من إنشاءات مرادفة وخدمات جديدة ضرورية لتشغيله عند إتمام الأعمال فيه.

يصل النفط الخام، إلى منطقة رأس مركز، جنوب الدقم عبر أنابيب من الحقول النفطية في عمان، وأيضاً بواسطة السفن التي تصل بحراً إلى نفس المنطقة آتيةً من العالم وبخاصةٍ من دولة الكويت الشقيقة التي استثمرت أصلاً في المصفاة. يجمّع هذا المزيج من النفط في عشرة خزانات قرب الشاطئ هناك. مما يعني فعلياً بدء عمل الشركة الوطنية «OTTCO» على الأرض، وهي الشركة التي أنشئت لتقيم في المنطقة خزانات للنفط تصل سعتها المستهدفة الى مائتي مليون برميل وتصبح بذلك مركزاً عالمياً للتجارة والتداول بالنفط الخام وهو الهدف الرئيس للشركة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين: الجمال الطبيعي الخلاب لشاطئ رأس مركز واتساع مساحاته وسوء استعماله من جهة والصيد المستتر من جهة أخرى. عندما أوقفنا سياراتنا الثلاث في آخر الوصلة الجبلية التي تربط الهضاب بالشاطئ، ونزلتُ من السيارة العالية الأطراف محاولاً أن أحافظ على نظافة دشداشتي البيضاء نظرت إلى الشاطئ فرأيت أرتالاً من الناس يهربون في كل اتجاه، كما تتفرق طيور النورس الساعية وراء صيدها عندما يقاربها أحد فترتفع في الهواء معربة عن انزعاجها بإصدار أصوات تؤذي الآذان وتعود بعدها إلى سعيها بعد ابتعاد الدخلاء.

تحققت أن هؤلاء الذين هرولوا وتفرقوا واختبؤوا هم صيادون وافدون ظنوا أنني ومن رافقني، وأنا على رأسي المصَر، فريق تفتيش من قبل وزارة القوى العاملة. الدشداشة البيضاء والمصر والمرافقون أخافوهم. لكنهم كما طيور النورس هدؤوا وعادوا إلى سعيهم عندما تأكدوا أننا لم نصل لنوقفهم عن عملهم المخالف للقوانين بل حسبوا أننا من زبائنهم الكثر في موسم الربيان.
يصل النفط الخام إذاً عبر وصلة سيتم إنشاؤها بين رأس مركز وموقع المصفاة. يتم تكرير النفط هذا في المنشأة الجديدة التي تصل قدرتها الإنتاجية إلى مائتين وعشرين ألف برميل يومياً. أي تقريباً مثل الطاقة الإنتاجية الحالية لمصفاة ميناء الفحل وصحار مجتمعتين. علماً أنه يصار حالياً إلى إنجاز أعمال المنشآت البحرية اللازمة لعمليات التصدير من خلال حزمة أخرى، ما هو إذاً وقع هذا المشروع على المنطقة الاقتصادية الفتية؟
أتوقع أن يكون حالياً عدد سكان الدقم داخل المنطقة وخارجها حوالي عشرة الآف، منهم النصف في قرية النهضة (Renaissance Village) وسيرتفع هذا الرقم تدريجياً خلال الفترة المتبقية من هذا العام وخلال العام المقبل إلى حوالي ثلاثين ألف أو أكثر، وهو رقم واقعي إذا احتسبنا فقط زيادة العاملين على هذا المشروع دون غيره، وهذا العدد المنتظر من الناس يتطلب الكثير والكثير من وسائل النقل، وأماكن سكن ومطاعم وملاعب وملاهي ومحلات تجارية وترفيهية، بحرية وبرية، وعناية صحية ومحلات للملابس وأدوات للرياضات المختلفة وخدمات بنكية واتصالات هاتفية وخدمات الإنترنت ومراكز التدريب والتأهيل ومحلات بيع مواد البناء والكسارات، وعلى الخدمات أن تُنفذ بسرعة لمواكبة وتسهيل عملية الإنشاءات من كهرباء ومياه ومحطات لمعالجة مياه الصرف الصحي وخدمات الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت.
المهم أن هناك حوالي ستة أو سبعة بلايين دولار ستصرف على هذا المشروع، منها حوالي بليونين سيصرفون محلياً، وهذا رقم كبيرٌ سيحرك عجلة النمو في المنطقة الوسطى عامة والمنطقة الاقتصادية خاصة. بالإضافة إلى خمسين شركة متوسطة الحجم ستستفيد من الأعمال وحوالي مائتي مؤسسة صغيرة ومتوسطة ستنتعش وتنمو، وابتدأت الشركات تتحرك نحو الدقم ومنها الكثير ممن سبقوا الأحداث مثل شركة النهضة (الطاؤوس) التي استثمرت حوالي ثمانين مليون ريال لإنشاء قرية متكاملة للعاملين هناك تتوفر فيها جميع أسباب الراحة للنزلاء.

مع البدء بالعمل في رأس مركز، وتقدم العمل على ميناء الصيد الضخم جنوب المطار ومع البدء بتنفيذ أعمال مصفاة الدقم يشعر المستثمر ورائد الأعمال وأهالي المنطقة بارتياح وأملٍ كبيرين. وبأن الحلم الكبير بدأ يتحقق فعلاً، والقصة لا تنتهي عند هذا الحد، بل بدأت شركات عالمية تهتم بمنتجات المصفاة المستقبلية وتدرس الجدوى الاقتصادية لمشاريع تحويلية تستند على تلك المنتجات كمواد أولية لعملياتها الكيماوية والبتروكيماوية.

ما نحتاجه اليوم أمام الحدث هو مصفاة للقلوب، تزيل منها الخوف وعدم الثقة بأنفسنا وبمشاريعنا الاستراتيجية، خصوصاً مشروع المنطقة الاقتصادية سيزاد (SEZAD) فنواكبه وندعمه ونستثمر فيه ونروج له فنضمن نجاحه بعون الله.