مقاهي باريس من منارات الفكر إلى مساحات لصور السياح

مزاج الثلاثاء ٢٣/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٩:٢٥ ص
مقاهي باريس

من منارات الفكر إلى مساحات لصور السياح

باريس - العمانية

لا تكتمل زيارة باريس إلا بالجلوس في مقاهيها، ولا يكتمل تاريخها إلا بحضور تاريخ مقاهيها ودورها في النهضة الفرنسية وفي حركة الآداب والفنون والفلسفة والفكر.كانت المقاهي ساحة نزال المثقفين، ومكان صناعة خيالهم الأدبي، وصالات تحرير لكتبهم ومجلاتهم الثقافية قبل مقالاتهم التي تتصدر في اليوم التالي صفحات الجرائد الفرنسية.

وازدهرت المقاهي في باريس وفي عموم أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولم تكن المقاهي كما نعرفها اليوم محطة استراحة لشرب فنجان قهوة أو قراءة جريدة عابرة، بل كانت فضاء مثاليا للمثقفين والمفكرين وللسياسيين، تتحول مع سخونة الحوارات والجدال إلى مقرات سياسية ومنتديات ثقافية.. ففيها وضعت أبجديات الثورة الفرنسية وتشكلات مقولاتها الفلسفية وصيغت بياناتها السياسية، ومن على طاولاتها تم تحرير أغلب الصحف الفرنسية في تلك المرحلة، وكتبت بيانات الجماعات الأدبية الحداثية والسريالية والدادائية، والتيارات الفلسفية والوجودية وغيرها من الحركات الأدبية والفنية التي ازدهرت في باريس كما دارت فيها حوارات فكرية ساهمت في تطور الثقافة الأوروبية.. وأخذت أغلب المقاهي في باريس اسم «المقاهي الأدبية» نظرا لارتباطها بالأدباء والمثقفين الذين كانوا يتخذون لهم أركانا في تلك المقاهي، يكتبون كتبهم ويوقعون لاحقا عليها في احتفالات تقام في تلك المقاهي. وبهذا الوصف تحولت المقاهي في باريس بشكل خاص إلى ما يشبه المؤسسات الثقافية والسياسية واكتسبت بذلك الكثير من التقاليد التي حافظت عليها لفترات طويلة.
لكن نجم تلك المقاهي أخذ في الأفول في النصف الثاني من القرن العشرين وبشكل تدريجي قبل أن تتحول تلك المقاهي إلى ما يمكن أن يعتبر مكانا للذاكرة، ومساحة تستغل بشكل سياحي على وقع تاريخها فقط دون أن تساهم في صناعة مشهد أدبي أو فضاء فكري.. يذهب السياح اليوم لزيارة ما بقي من تلك المقاهي لالتقاط صور تذكارية أو ارتشاف فنجان قهوة برائحة العظماء الذين مروا على تلك المقاهي دون وعي كبير بدورها في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وإذا ما راجعنا النصوص الشعرية والنثرية التي كتبت في باريس في القرنين التاسع عشر والعشرين نستطيع أن نقف على حضور فضاء المقاهي في تلك الأعمال، بل والدور الريادي الذي كانت تقوم به.
يقول هنري جيمس: متحدثا عن المقاهي في باريس: «هنا يتمكن المرء من أن يجلس بسلام لساعات دون أن يزعجه النادل، وهنا يتمكن أن يقرأ ويكتب في الصباح، ويقوم بأعماله في الظهيرة ويضحك ويناقش الأصدقاء في الليل». وساعد التخطيط العمراني المتميز لمدينة مثل مدينة باريس في وجود المقاهي وفي تحولها إلى فضاءات جاذبة للمثقفين والمفكرين والفنانين ومكان يلتقي فيه رجال الصحافة، حيث ساعدت الجادات في بداية الشوارع ونهايتها لإنشاء المقاهي في الأماكن البارزة التي تجذب الجميع.
وبالعودة إلى تاريخ مقاهي باريس يمكن الوقوف إلى جوار مقهى «بروكوب» الذي افتتح العام 1689 باعتباره أقدم مقاهي المدينة، وكان الفيلسوف فولتير أحد رواده إلى جوار مونتسكيو وحتى جان جاك روسو مر على هذا المقهى واستوطن لفترات طاولاته. وفي هذا المقهى الذي كان يقتصر على تقديم القهوة والمثلجات ولدت التيارات الأيديولوجية الجديدة في فرنسا ومنه بدأت تشع أنوار الفلسفة الجديدة، وعلى مقاعده تشكل مصطلح «عصر الأنوار».

وكان «بروكوب» ملتقى لرواد المسرح الذين يذهبون له كل مساء. وتنقل هدى الزين صاحبة كتاب المقاهي الأدبية في باريس فقرة من مقال للصحفي لويس سيباستيان المؤرخ في 25 يناير 1799 يقول فيها «عندما ذهبت للمرة الأولى العام 1757 لمشاهدة المسرح وبعد دخولي الصالة شكلنا يومئذ ما نستطيع تسميته كتيبة من شباب الآداب، ومع نهاية العرض ذهبنا إلى مقهى البروكوب لنتحدث عن الفن وجاء النادل المعروف من قبل الجميع ليسكب المشاريب الحارة واقترب مني وهمس في أذني بقوله: سقى الله تلك الأيام الخوالي، وكان يقصد أيام المسرح والأعمال الكبيرة حيث كان في نهاية كل عمل يقوم على خدمة النجوم».

ويذكر تاريخ هذا المقهى المبثوث في الكثير من المراجع التي وثقت تاريخ المقاهي ومن بينها ما ورد في كتاب هدى الزين بأن من داخل هذا المقهى انطلقت شرارة الثورة الفرنسية حيث كان يلتقي مارات ودانتون وروبيسبير وكانوا يعقدون مجالس الحرب حول أكواب الكريما التي كانوا يشربونها.

وفي العام 1728 قال الفيلسوف مونتسكيو: «لو كنت حاكما لهذه البلد لأقفلت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة»، وهو ما يكشف قدرة رواد تلك المقاهي في إيقاد الرغبة في التغيير وسحر كلماتهم في حشد الجماهير التي صنعت الثورة الفرنسية.

ومن بين مقاهي باريس العتيقة مقهى «لي دو ماغو» الذي يقع في الحي اللاتيني في شارع بولفار سان جرمان. ورغم الزمن ما زال هذا المقهى محافظا على جزء من تقاليده وطابعه القديم، رغم أنه تحول اليوم إلى معلم من المعالم السياحية في المدينة ولم يعد مكانا لجلوس المثقفين والمفكرين بعد أن احتله السياح الباحثون عن صور فتوغرافية في مكان كان في يوم من الأيام ملاذا للمفكرين والسياسيين. وكان أبرز زوار هذا المقهى سيمون دو بوفوار وصديقها سارتر. وتقدم في هذا المقهى جائزة سيمون دو بوفوار التي تحمل دائما شعار «حرية المرأة». كما كان الروائي ألبير كامي من بين المترددين على هذا المقهى الذي انطلقت فيه الحركة الفنية السريالية وكان رموزها بين شبه المقيمين فيه نقاشا وحوارا فكريا لا ينتهي.
وليس بعيدا عن هذا المقهى يقع مقهى آخر ذو شهرة كبيرة، إنه مقهى «دي فلور» الذي تأسست على طاولاته مجلة «سوار دو بارى» حيث حول كتاب المجلة المقهى إلى ما يشبه صالة التحرير خاصة خلال مرحلة الحرب العالمية الأولى. وكان بيكاسو من بين المترددين على مقهى فلور، إضافة إلى الشاعر أنطوان أرتو الذي كان يصعد فوق إحدى الموائد ويلقي آخر قصائده على الحضور. وفي نفس المقهى كان يقف الشاعر «آرثور أداموف» محاطا بالحسناوات ويلقي قصائده.
وتنقل هدى الزين عن سارتر قوله عن مقهى فلور: «إن له طقوسه الخاصة إذ كان زبائنهم يعيشون فيها كما لو كانوا يعيشون في إناء مغلق، فلم يكن الغريب مقبولا في المقهى ولا محبوبا على الإطلاق، فعندما كان الباب يفتح كان الكل يرفع رأسه لرؤية الداخل لكننا لم نكن نحييه أبدا.. كنا نتمتع أنا وسيمون دو بوفوار بميزة وهي أنه عندما تخلى صفارات الإنذار المقهى من الزبائن كنا نتظاهر أنا وهي بالمغادرة ونذهب للطابق الأول، حقا كان مقهى فلور ناديا خاصا بنا».
ومن بين مقاهي باريس التي لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن المقاهي ودورها في الحراك الثقافي والفني يتبدى مقهى «ليب»، المقهى الذي يواجه في الفضاء المكاني مقهى فلور في سان جرمان، وهو مقهى شهد الكثير من الحراك السياسي في تاريخ مدينة باريس. وتذكر هدى الزين في كتابها أنه المقهى الذي تم فيه التوقيع على بيان الخمسة المناهضين لرواية «الأرض» لإميل زولا عام 1877، وكان مقرا للمنشقين عن جماعة الهدروبات وهم «جون مورياس، ولورون تابا، وبول مونه». وكان هذا المقهى من بين المقاهي التي كان يفضلها الروائي «أرنست همنجواي» ويمكن للقارئ أن يكتشف ذلك من خلال حضوره الكبير في روايته «باريس والعبيد»، كما كان من زوار هذا المقهى أيضا الفنان بيكاسو. وفي العام 1933 أسس هذا المقهى جائزة أدبية رأسها في بدايتها أندريه سالمون، ومنحت الجائزة في ذلك العام لفرقة مسرحية «ستارة باريس».

ويتميز الحي اللاتيني في باريس بالكثير من المقاهي التي كانت مقاهي أدبية أكثر من كونها مقاهي لشرب القهوة من مثل مقهى دولا لوراين، ومقهى ماهيو الذي يقع عند جادة سان ميشيل مع شارع سوفلو، ومقهى فولتير، ومقهى البون رويال والذي يعتبر مقرا للناشرين ودور النشر الفرنسية لكن هذا المقهى أغلق في تسعينات القرن الماضي رغم أنه كان فرعا لدار نشر غاليمار الشهيرة.