نهاية بريكسيت

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٢/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٩:٠١ ص
نهاية بريكسيت

روبرت سكيدليسكي
حمل «مؤيدو بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي»، الذين لا زالوا يأملون في تغيير قرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لافتات في المدن البريطانية تحمل عبارة «بريكسيت- هل يستحق الأمر ذلك؟»، حسنا، هل يستحق ذلك؟

إن جواب الخبراء الاقتصاديين على هذا السؤال واضح: لا بالتأكيد. وفي ما يتعلق بخسائر الانسحاب ومكاسبه، كانت نتائج استفتاء بريكسيت لعام 2016، بكل وضوح ،غير منطقية.

ومع ذلك فالخبراء الاقتصاديون كان لهم دور في اتخاذ هذا القرار أيضا. حيث ساعد بذكاء المروجون لبريكسيت على تحويل الاستياء الاقتصادي الواضح ، خاصة من الهجرة، إلى عداء اتجاه الاتحاد الأوروبي. لكن الاستياء كان من الضرر الذي ترعرع داخل بريطانيا، والذي سببه المسؤولون اللامبالون للاقتصاد البريطاني. وكما ذكر ويل هاتن، وأندرو أدونيس في كتابهما الأخير إنقاذ بريطانيا، « إن مشاكلنا صنعت في بريطانيا، ولا يمكن ان تحل إلا في بريطانيا ، وأوروبا لا تعرقل هذه المهمة......».
ولكن هاتن وأدونيس غفلا عن البعد غير الاقتصادي المهم في بريكسيت. لقد أعادوا إلى الأذهان العلاقة الطويلة والحميمية بين بريطانيا والقارة الأوروبية على النحو الصحيح. لكن أوروبا لم تكن يوما دولة أوروبية. ورغم أن الاتحاد الأوروبي بعيد كل البعد من أن يكون «الدولة العظمى» الذي كان كابوسا يراود مارغريت تاتشر، فإن ما تطمح إليه حكوماته يفتقد للشرعية، ليس في بريطانيا فقط، بل وسط العديد من دول الاتحاد الأوروبي. ورغم الحديث عن المواطنة الأوروبية، تبقى السياسات قومية بشكل عنيد. و حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي كانت ثورة ليس فقط ضد سوء تدبير الاقتصاد، بل أيضا ضد التطلع لخلق حكومة تتخطى الحدود القومية.
إذا فانعكاسات بريكسيت قد تشير إلى أن الجدلية بين تخطي الحدود القومية والقومية ستتطور في معظم باقي دول العالم، حيث تشكل موضوع الأحداث السياسية الراهنة. إن المرحلة النهائية لبريكسيت نفسها بعيدة عن الوضوح. إذ هناك أربعة احتمالات.
الاحتمال الأول هو أن بريطانيا لن تنسحب من الاتحاد الأوروبي في النهاية. ويعتقد منظمو حملة ل» تصويت الناس»- الاستفتاء الثاني بشأن دورات الخروج الأخيرة- أنه عندما يدرك الناس التكلفة الحقيقية للحياة، سيلغون القرار الذي اتخذ العام 2016. ويمكن لفشل الحكومة في الفوز بموافقة برلمانية على تسوية الانفصال التي اتفقت عليها مع الاتحاد الاوروبي أن يؤدي إلى تصويت ثان.
والاحتمال الثاني هو أن «تنشق» بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس، 2019، دون اتفاق بشأن الانفصال. وفي هذه الحالة، يرى المتنبئون سيناريو انهيار اقتصادي يشبه يوم الحساب، وازدحام سير خانق على الطرقات والسكك الحديدية، ونقص في الغذاء والأدوية والوقود: إنها 1940 من جديد. ( ولكن ليس بالضبط الفترة التي حققت فيها بريطانيا أعظم إنجازاتها).
وتدعم حكومة رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا مي، احتمالا الثالث: نصف في الداخل ونصف في الخارج. ويقترح اتفاق تشيكيرز، الذي حصل على موافقة مجلس الوزراء في منزل رئيسة الوزراء الريفي، أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيدخل الطرفان في اتفاق التجارة الحرة التي تشمل المنتوجات الزراعية، وليس الخدمات. وهذا الاتفاق، الذي صممه مستشار مي، أوليفر روبينز، محاولة بطولية لحل مشكل الحدود البريطانية.
وظهرت مشكلة الحدود البريطانية بعد التزام كل من بريطانيا وجمهورية إيرلندا بإبقاء الحدود بين جمهورية إيرلندا وشمال إيرلندا «عديمة الاحتكاك»، وبموجب هذا الالتزام ستبقى جمهورية إيرلندا داخل الاتحاد الأوروبي، بينما تنسحب منه إيرلندا الشمالية لأنها جزء من المملكة المتحدة. لكن إبقاء الحدود مفتوحة في إيرلندا سيؤدي إلى إيجاد حدود جمركية بين جزأين من المملكة المتحدة.
وبالتالي فاتفاق تشيكرز يهدف إلى استمرارية التجارة الحرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. إذ ستتأكد بريطانيا من أن المنتوجات التي تدخل إيرلندا الشمالية، في اتجاه الاتحاد الأوروبي عبر جمهورية إيرلندا، دفعت الرسوم الجمركية للاتحاد الأوروبي، واحترمت معايير الصحة والسلامة للاتحاد الأوروبي.
ويعارض مؤيدو بريكسيت في الحزب المحافظ لمي اتفاق تشيكرز، لأنه يٌقحم بريطانيا كثيرا في الاتحاد الأوروبي. ولن يُعجِب قادة الاتحاد الأوروبي أيضا، حيث لا يمكن السماح بدخول بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي لبعض الأسباب والخروج منه لأسباب أخرى.
والاحتمال الأخير هو سيناريو آخر «لنصف في الداخل ونصف في الخارج». ستنسحب بريطانيا من اتحاد الجمارك، لكنها ستبقى في الساحة الاقتصادية الأوروبية، التي تشمل 28 دولة من الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى النورويج، وليشتنشتاين وإيسلندا. وستتحترم دول الساحة الأوروبية الاقتصادية تقريبا جميع قوانين الاتحاد الأوروبي وستساهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي، رغم كونها حرة في تحديد أسعارها. إذا، فاقتراح الساحة الاقتصادية الأوروبية سيغضب مؤيدي بريكسيت المتعصبين أكثر من اتفاق تشيكيرز. إذا، ماذا سيحدث؟ تقول معظم التكهنات أن بريطانيا ستنفصل رسميا عن الاتحاد الأوروبي في مارس 2019، لكنها ستبقى في اتحاد الجمارك بشكل مؤقت، وستنتظر لمدة عامين أو ثلاثة أعوام لمناقشة تسوية الانفصال الأخيرة. وسيغضب هذا الانسحاب «اللطيف» مؤيدي بريكسيت ، لكنه سيكون كافيا لضمان موافقة برلمانية. وسيحترم قرار الاستفتاء بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لكن التبعات الاقتصادية القاسية ستؤجل: إنه انتصار البراغماتية على الإيديولوجية.
وإذا اتخذ مسار بريكسيت هذا الاتجاه، سيكون ذلك برهانا على ازدواجية طبيعة السياسات ووظيفتها. وقد تحدث جون مينار كينز عن هذه المسألة بشكل جيد، حيث كتب في العام 1933 ما يلي «يجب أن تكون الكلمات وحشية شيئا ما، لأنها اعتداء للأفكار على عدم التفكير». لكن عندما يتم الوصول إلى كراسي القوة والسلطة، لا ينبغي أن يكون هناك رخصة لممارسة الشعر. بل يجب أن نعد عكسيا كل الاموال التي ازدرتها بلاغتنا».
إن دور السياسيين هو الإفراج عن مشاعر البغض المحتجزة بسبب المحافظة التي «تفتقر إلى التفكير». فهم يفصحون عن مشاعر نحن في غنى عنها، وتهدد بانفجار سياسي إن تعرضت للقمع. لكن دورهم يتجلى أيضا في ضمان أن لا يكون لهذا الثوران آثارا وخيمة. ومن حين للآخر، تفشل محاولة تحقيق التوازن، كما حصل العام 1914، عندما أربك زخم الأحداث المحاولات الأخيرة للتسوية. وحدث هذا من جديد في ثلاثينيات القرن الفائت، لأن الفاشية والشيوعية كانا نظامين غير متطرفين بشكل غير قابل للإصلاح. لكن غالبا ما يقوم السياسيون بأدوارهم المزدوجة التي تتجلى، حسب التحليلات الأخيرة، في الحفاظ على السلم الوطني والدولي. إذا فتسوية بريكسيت، إن حدثت، ستكون دلالة منذرة لمصير الشعبوية في القرن الحالي. إذ لن تؤدي نهضة القومية الاقتصادية التي تجمع بريكسيت وسياسات ترامب واليمين المتطرف الأوروبي إلى انهيار التجارة، أواندلاع الحروب المسلحة، أورجوع الديكتاتورية أو الاندثار السريع للعولمة. بل هو إنذار قوي للجهات السياسية- قد يجعل المتطرفين الحاليين يتهربون مما آلت إليه أقوالهم.

عضو في مجلس اللوردات البريطاني، منصب أستاذ متقاعد لشعبة الاقتصاد السياسي في جامعة وارويك.