بيتر سنجر
قبل أكثر من أربعين عاما، في مقال بعنوان "المجاعة، والثراء، والأخلاق"، دعوت القراء إلى أن يتصور كل منهم نفسه وكأنه يمر ببركة ضحلة فيرى طفلاً صغيراً سقط فيها ويبدو أنه يشرف على الغرق. يمكنك بسهولة أن تنقذ الطِفل، ولكن هذا يعني إتلاف حذائك الجديد الباهظ الثمن. ألن يكون من الخطأ أن تتجاهل الطِفل وتستمر في طريقك؟
عندما أطلب من الحضور التصويت برفع أيديهم بشأن هذا السؤال، فإنهم يُجمِعون عادة على أنه من الخطأ إعطاء الأولوية للحذاء. ثم أشير إلى أننا بالتبرع لمؤسسة خيرية تسعى إلى حماية الأطفال في البلدان النامية من الملاريا أو الإسهال أو الحصبة أو نقص التغذية نستطيع جميعاً أن ننقذ حياة طِفل.
وهي حجة بسيطة، إلى أن ندرك أننا بإنقاذ طِفل واحد بالتبرع لمؤسسة خيرية فاعلة نحظى بالفرصة لإنقاذ آخر، وآخر، وآخر. فهل ينبغي لنا أن نتوقف عن الإنفاق على الكماليات حتى يتسنى لنا أن ننقذ حياة أخرى، فنستمر في العطاء إلى أن يجعلنا بذل المزيد من العطاء فقراء مثل أولئك الذين نساعدهم؟
يتردد صدى المثال الذي أوردته (إنقاذ الطِفل الغريق) في عنوان كتاب لاريسا ماكفاركهار الأخير "غرباء غرقى". يتألف جوهر الكتاب من سلسلة من لمحات مختصرة من حياة أشخاص يعيشون وفقاً لمعيار أخلاقي يتطلب الالتزام به بذل جهود كبيرة وصارمة. ومن المفيد كثيراً أن نلقي نظرة سريعة على بعض الأشخاص الذين تورد لاريسا لمحات من حياتهم في كتابها.
حتى في طفولتها، كانت جوليا وايز تشعر أنها لا ينبغي لها أن تهتم برفاهيتها أكثر من رفاهية أي شخص آخر، ما دام كل شخص على نفس القدر من القيمة كغيره. فإذا كان شخص آخر قد يستمد فائدة أكبر من المال الذي تشتري به جوليا بعض الآيس كريم، فمن الأفضل أن تعطي المال لذلك الشخص. وبدأت جوليا تعطي مدخراتها لمؤسسات خيرية مثل أوكسفام. وعندما وقعت في حب جيف كوفمان، اتفقا على التبرع بجزء كبير من دخلهما ــ وهو الجزء الذي بلغ الآن نحو نصف دخلهما (تدون وايز أفكارها وتجاربها على مدونة www.givinggladly.com).
كانت كيمبرلي براون ويل راعية أبرشية في كنيسة في إسيكس في ولاية ميريلاند، عندما شاهدت تقريراً إخبارياً حول امرأة شابة في احتياج إلى عملية زراعة كلية. ومن دون تفكير كثير، اتصلت لتعرض إحدى كليتيها. ورغم أن التحاليل أظهرت أنها ليست المتبرعة المناسبة للمرأة الشابة، سألتها إحدى الممرضات ما إذا كانت على استعداد للتبرع بكليتها لشخص آخر، فوافقت. وانضمت كيمبرلي إلى عدد متزايد من الأشخاص الذين يتبرعون بكلاهم لغرباء. (أعرف أحدهم دفعته إلى القيام بذلك مناقشة في درس للفلسفة حول كتاب "المجاعة، والثراء، والأخلاق").
في ليلة ممطرة، صادف بابا أمتي، وهو نجل أحد ملاك الأراضي الأثرياء في الهند، شخصاً مصاباً بالجذام في حالة احتضار. وقد تغلب بابا على اشمئزازه وخوفه من التقاط عدوى المرض، فحمى المجذوم من المطر. وظلت هذه التجربة باقية في ذهنه، إلى أن قرر تأسيس مستعمرة للجذام. وفي غضون بضع سنوات، كان عِدة آلاف من المجذومين والأشخاص الذين يعانون من إعاقات أخرى يعيشون هناك في مجتمع مزدهر. وبعد وفاة بابا، واصل أبناؤه عمله.
كانت سو هوج طفلة عمرها 12 عاماً عندما قرأت كتاباً عن أسرة تبنت العديد من الأطفال المحتاجين، ومنذ ذلك الحين تملكتها الرغبة في القيام بذلك هي أيضا. وعندما التقت هيكتور بادوا وتزوجته، قررا إنجاب طفلين وتبني طفلين آخرين. وقد فعلا ذلك، ولكنهما لم يستطيعا تجاهل معرفتهما بأن أطفالاً آخرين كانوا في حاجة ماسة إلى مسكَن كريم ــ الأطفال الذين لم يكن من المرجح أن يتبناهم أحد بسبب إعاقة أو بسبب عِرقهم أو سنهم أو تاريخ من العنف. ولم يكن هوج وبادوا من الأثرياء، ولكن انتهت بهما الحال إلى تكوين أسرة تتألف من عشرين طفلاً بالتبني، فضلاً عن اثنين من أطفالهما الطبيعيين.
تمزج ماكفاركهار بين هذه اللمحات ومناقشات لمواقف الإيثار التي عبر عنها، بين آخرين، برنارد ماندفيل، وآدم سميث، وإيمانويل كانت، وتشالز داروين، وسيجموند فرويد. كان العديد من هؤلاء المفكرين معادين لفكرة الإيثار، أو ربما أنكروا حتى وجوده. وعندما أخبرت ماكفاركهار صديقاتها بأنها تؤلف كتاباً عن "فاعلي الخير"، وجدتهم يعربون عن عدم ارتياحهم إزاء الفكرة بأن بعض الناس لا يجاهرون بمبادئ أخلاقية شديدة الصرامة فحسب، بل ويعيشون وفقاً لها أيضا. وقد وجدت ماكفاركهار هذا العداء محيرا ــ فلماذا لا نُعجَب بالأشخاص الذين يقدمون الكثير للآخرين، بدلاً من اتهامهم بغرابة الأطوار؟
لعل الجواب يكمن في أننا أيضاً نشعر بأننا لابد أن نعيش حياة أكثر أخلاقية، وأن الناس الذين يصفهم كتاب "غرباء غرقى" يمثلون تأنيباً وتوبيخاً حياً للطريقة التي نعيش بها حياتنا. فإذا كان بوسعهم أن يعيشوا وفقاً لمعايير أخلاقية أعلى، فلابد أن يكون هذا بمقدورنا نحن أيضا. وإذا كان بوسعنا أن نقنع أنفسنا بأن كل المؤثرين منافقون، فلن نستشعر مدى السوء الذي نحن عليه؛ ولكن كتاب "غرباء غرقى" يثبت أن هذا الاعتقاد المريح كاذب.
هناك أناس يكرسون حياتهم للآخرين، ولا ينتظرون أي مكافأة غير عِلمهم بأنهم يساعدون الآخرين ويعملون بما يتفق مع قيمهم. والحق أن كثيرين منهم يجدون حياتهم مجزية ومُرضية للغاية. ولكن ليس هذا هو ما يدفعهم إلى القيام بما يقومون به.
أستاذ أخلاق الطب الحيوي في جامعة برينستون، ومؤسِّس جمعية "الحياة التي يمكنك إنقاذها"، و