الهجرة الإفريقية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٩/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٠:٣٢ ص

موكيسا كيتوي

إن قِلة من القضايا قد تثير نفس القدر من الحساسيات والعواطف المحيطة بقضية الهِجرة. فقد تسببت صور الأشخاص البائسين اليائسين النازحين ــ سواء كانوا يحاولون عبور الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك أو كانوا محشورين في قوارب متداعية متهالكة يعبرون البحر الأبيض المتوسط ــ في تصعيد التوترات وصياغة سرد مفاده أن الهجرة لا تنطوي على أي جانب إيجابي.

لكن هذه الصور أعمتنا أيضا عن حقيقة مفادها أن البشر كانوا دائمي الانتقال، وأن الهجرة ضرورية ومفيدة للتطور البشري. وتتجلى هذه الحقيقة بأكبر قدر من الوضوح اليوم في إفريقيا.

على الرغم من الأزمة السياسية الجارية المحيطة بالهجرة الإفريقية إلى أوروبا، فإن الواقع يؤكد أن عددا أقل من الأفارقة يهاجرون إلى دول أوروبية الآن مقارنة بالأعداد التي بلغت ذروتها في أكتوبر 2015. الواقع أن أغلب المهاجرين الأفارقة ينتقلون داخل إفريقيا. وهذه الحقيقة على وجه التحديد توفر للحكومات الإفريقية الفرصة لتسخير القوة الإيجابية المتمثلة في قدرة البشر على التنقل. يتطلب فهم الكيفية التي يمكن بها أن تعمل الهجرة على بناء الثروة في إفريقيا تكريس قدر أكبر وأوثق من العناية لاتجاهات الهجرة. وتشير البيانات الصادرة عن مؤسستي، مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، إلى أنه من بين 41.5 مليون شخص هاجروا من إفريقيا، أو إليها، أو داخلها في عام 2017، ظل النصف تقريبا ــ 19 مليون شخص ــ في القارة. وترك نحو 17 مليون شخص إفريقيا، في حين هاجر 5.5 مليون شخص إلى إفريقيا من أجزاء أخرى من العالَم.
يشمل المهاجرون الأفارقة العمال العاديين والموظفين، والواقع أن أولئك الذين ينتقلون داخل إفريقيا يفعلون هذا عادة لسد ثغرات في الأيدي العاملة. على سبيل المثال، أدى النقص في اليد العاملة في مجالات التعدين، والبناء، والزراعة، والخدمات المحلية، إلى تغذية الهجرة إلى جنوب إفريقيا وكوت ديفوار، وهما من أكثر المراكز الاقتصادية أهمية في القارة. وفي أماكن أخرى، اجتذبت أيضا قطاعات مثل الأخشاب والتعدين في الجابون، وصناعة النفط في غينيا الاستوائية، والعديد من الصناعات في كينيا، الهجرة من دول مجاورة.
الأمر ببساطة أن الهجرة إلى إفريقيا تساعد الاقتصادات التي يقصدها المهاجرون على تحقيق النمو. وبالإضافة إلى سد احتياجات الأيدي العاملة يعمل تواجد أعداد كبيرة من السكان المهاجرين على تحفيز ودفع التنوع الاقتصادي، وتنمية القطاع الخاص، وإنتاج القيمة المضافة. وعلاوة على ذلك، ينفق المهاجرون نحو 85 % من مكاسبهم في الداخل. ويضيف ضخ رؤوس الأموال على هذا النحو إلى القاعدة الضريبية في دول المقصد ويعمل على تعزيز استهلاكها المحلي.
لكن مهاجري إفريقيا يساهمون أيضا في تنمية بلدان المنشأ، بفضل التحويلات المالية وتقاسم المعرفة. والواقع أن القيمة الإجمالية للتحويلات المالية من جانب المهاجرين الأفارقة تتجاوز الآن حجم مساعدات التنمية الرسمية التي تتلقاها الدول الإفريقية. ومنذ العام 2015، كانت التحويلات المالية، التي سجلت نموا قويا منذ العام 2000، تمثل القسم الأعظم من إجمالي التدفقات المالية الخارجية إلى إفريقيا، في حين انخفضت مساعدات التنمية الرسمية من 37 % في الفترة 2001-2003 إلى 28% في الفترة 2012-2016. وكانت التحويلات المالية تمثل 51% من تدفقات رؤوس الأموال الخاصة إلى إفريقيا في العام 2016، ارتفاعا من نحو 42 % في العام 2010.
تتنبأ توقعات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) بأن يساعد تبني سياسات داعمة للهجرة في زيادة نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا بنحو 61 % بحلول العام 2030 ــ إلى نحو 3250 دولارا. بعبارة أخرى، لا تشكل الهجرة داخل إفريقيا ظاهرة إنسانية واجتماعية فحسب؛ بل تُعَد أيضا عنصرا بالغ الأهمية للنمو.
وقد بدأت الحكومات الإفريقية تدرك هذه الحقائق. وتدعم دول عديدة الآن إطار سياسة الهجرة من أجل إفريقيا الجديد الذي أقره الاتحاد الإفريقي. ومنذ شهر مارس 2018، تبنت أكثر من نصف الدول البالغ عددها خمسين دولة التي تعهدت بإنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية بروتوكولها بشأن حرية تنقل البشر.
للبناء على هذه الإنجازات، يتعين على الحكومات الإفريقية أن تستمد الإلهام من بعضها بعضا. على سبيل المثال، من المنتظر أن تعمل مبادرات مثل برنامج التأشيرات المؤقتة في رواندا للمهاجرين شبه المهرة، والتوسع الأخير في المغرب في فئات الوظائف التي يمكن للأجانب الالتحاق بها، على جلب سياسات عمل أكثر مرونة لهذين السوقين. وسوف تستفيد دول أخرى كثيرة من دول المقصد من إبداعات مماثلة.
من المعالم الأخرى التي من شأنها أن تعزز الهجرة داخل إفريقيا الإطلاق المرتقب بشدة لجواز السفر لكل إفريقيا. ولكن من المؤسف أن الجمود البيروقراطي من المرجح أن يؤخر إطلاق هذه المبادرة، برغم أن هدفها ــ تعزيز التجارة والتكامل والتنمية الاجتماعية الاقتصادية داخل الاتحاد الإفريقي ــ يستحق الإشادة.
أخيرا، يستعد المجتمع الدولي لتبني أول ميثاق عالمي للهجرة الآمنة المنظمة والنظامية. والواقع أن هذا الاتفاق التاريخي يمثل مخططا أساسيا لإدارة تدفقات الهجرة العالمية. وهو أيضا تصديق على كون الهجرة ضرورة اقتصادية، وليس فقط لإفريقيا. وعندما يتم إبرام الميثاق في هيئته النهائية في وقت لاحق من هذا العام في المغرب، فلابد أن يعكس الأولويات التي التزم بها قادة إفريقيا بالفعل.
من خلال اتفاقيات جيدة الصياغة والتنفيذ، يمكن للهجرة أن تصبح نِعمة للناس والأماكن التي يسمونها الوطن. صحيح أن الروايات الإعلامية المنحرفة اليوم تتجاهل وتهمل فوائد الهجرة. ولكن مع الاستعانة بالحقائق والالتزام بالعمل الجاد، يُصبِح بوسعنا أن نروي قصة مختلفة تماماً.

الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).