بريكسيت والنظام الأوروبي

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٤/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٣:٢٣ ص
بريكسيت والنظام الأوروبي

يوشكا فيشر

بقيت أشهر قليلة فقط قبل أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رسميا. ولحد الساعة، تناول النقاش بشكل أساسي الجانب الاقتصادي لهذا الانسحاب. إذ في حال ما غادرت المملكة المتحدة المجموعة دون اتفاق متبادل، من المحتمل أن يكون الضرر كبيراً. وكما يبدو عليه الأمر، فهذه الاتفاقية أبعد من أن تكون مؤكدة.

إن الانسحاب «الصارم» للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يعني أنه في يوم 29 من شهر مارس، 2019،على تمام الساعة 11 ليلاً (بتوقيت غرينيتش)، ستنهي المملكة المتحدة عضويتها في جميع المعاهدات- مثل الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة- والاتفاقيات التجارية الدولية التي عقدها الاتحاد الأوروبي. وستصبح بريطانيا طرفا ثالثا فقط، مما سيكون له انعكاسات بعيدة المدى على الاتحاد الأوروبي- خاصة حدوث فوضى على الحدود البريطانية.

لكن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سيكون له انعكاسات سياسية بعيدة المدى أيضا. إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على أنه سوق مشتركة واتحاد جمركي فيما يتعلق بقضاياه اليومية. لكنه في الجوهر، مشروع سياسي مبنس على فكرة خاصة حول النظام الأوروبي ودوله. وهذه الفكرة-ليس الجانب الاقتصادي للقضية- هي المعنى الحقيقي لبريكسيت . وهي الفكرة التي تفسر لماذا سيكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي تأثير عميق على النظام الأوروبي للقرن الواحد والعشرين- سواء تم ذلك الخروج بموجب اتفاق أم لا؟.
إن الأغلبية القليلة من البريطانيين الذين «صوتوا» خلال استفتاء 2012، لم يعيروا اهتماما للرفاه الاقتصادي، بل ما كان يهمهم هو المطالبة بالسيادة السياسية الكاملة. فهم لا يرون السيادة من ناحية الوقائع الموضوعية حول حاضر بريطانيا ومستقبله، بل يربطونها بماضي بريطانيا كقوة عالمية خلال القرن التاسع عشر. فهم لا يأبهون إن كانت المملكة المتحدة اليوم قوة أوروبية متوسطة الحجم ولديها حظوظ قليلة إلى منعدمة أن تلعب دورها من جديد على المستوى العالمي - سواء كان ذلك داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.
إذا كان ولابد على باقي دول العالم أن تتبع النموذج البريطاني وأن تختار القرن التاسع عشر بدل القرن العشرين، فسينهار الاتحاد الأوروبي. إذ سيضطر كل بلد إلى العودة إلى النظام المعقد للدول ذات السيادة، التي تسعى إلى الهيمنة وتراقب بشكل مستمر طموح بعضها البعض. وفي ظل مثل هذه الظروف، ستفتقر الدول الأوروبية للسلطة الحقيقية أيا كانت، وبالتالي ستنسحب من الساحة الدولية بشكل نهائي. وستحتار أوروبا بين انتمائها عبر الأطلسي والأوراسيوي، مما سيجعلها فريسة سهلة للقوى الكبرى للقرن الواحد والعشرين الخارجة عن الاتحاد الأوروبي.
إن النظام الأوروبي القديم والمتدهور للقرن التاسع عشر كان في الأصل نتيجة للحرب التي دامت ثلاثين سنة (1618-1648). وكان نظام القرون الوسطى الذي سبقه، والذي كان مبنيا على الكنيسة والإمبراطورية العالميتين قد اندثر خلال حركة الإصلاح الديني. وبعد سلسلة من الحروب الدينية وبعد بناء قوى إقليمية قوية، حل مكانه «النظام الويستفالي» للدول ذات السيادة.
وخلال القرون القليلة التي تلت هذا النظام، سيطرت أوروبا على العالم، وكانت بريطانيا بنفسها القوة الأوروبية المهيمنة. إلا أن النظام الويستفالي سينهار بسبب الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين- اللتين كانتا في حقيقة الأمر، حربين أوروبيتين من أجل الهيمنة العالمية. وعندما توقف إطلاق النار عام 1945، فقد الأوروبيون-حتى من حقق النصر منهم- سيادتهم بشكل فعلي. وحل نظام الثنائي القطب للحرب الباردة محل النظام الويستفالي، حيث بقيت السيادة في أيدي القوتين النوويتين غير الأوروبيتين: الولايات المتحد الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
وأظهر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بوضوح الانعكاسات المادية لهذا المستوى من الاندماج. إذ أثناء مفاوضات المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوربي، عادت مشكلة قديمة إلى الواجهة: إنها القضية الايرلندية. إذ فور انضمام الجمهورية الايرلندية وبريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، تلاشى الحماس من أجل لَمِّ شمل إيرلندا، ومكن هذا من وقف الحرب الأهلية بين الكاثوليكيين والبروتيستانت التي دامت لعقود عدة. وكان الاندماج الأوروبي يعني أنه لم يعد مهما تحديد البلد الذي تنتمي إليه إيرلندا الشمالية. لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قلب التاريخ، مما يهدد بعودة أشباح الماضي.
يجب على الأوروبيين النظر في القضية الايرلندية عن قرب، لأنه هناك احتمال رجوع مثل هذه الصراعات إلى القارة. إن نظاما جديدا بدأ يظهر، وسيرتكز حول المحيط الهادئ، وليس المحيط الأطلسي. ولدى أوروبا فرصة واحدة -فقط واحدة- لإدارة هذا التحول التاريخي.
إن الحنين إلى الماضي المجيد هو آخر شيء سيساعد الأوروبيين على مواجهة التحديات التي تقف في طريقهم. لقد انتهى الماضي، وهذا أمر طبيعي. يجب على أوروبا أن تنظر إلى مستقبلها، سواء كان ذلك مع بريطانيا أو بدونها.

وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها من 1988 إلى 2005