الدنيا أُم

مقالات رأي و تحليلات السبت ١٩/مارس/٢٠١٦ ٢٣:٤٠ م
الدنيا أُم

زاهي وهبي
ما الذي يمكن أن نضيفه في عيد الأم الى الحبر الذي سال على مَرِّ الأيام غزيراً في حُبّ الأم ومديحها والاعلاء من شأنها، وكيف نقول ما يضاهي الجنة التي تحت قدميها. هي مهمة شبه مستحيلة، لم يحدث أن كتب الأدباء والشعراء في حُبّ أحد ما كتبوه في أمهاتهم، لا تقليلاً من شأن الأبوة ولا إجحافاً، بل انتصاراً لحقيقة موضوعية مفادها أن لا علاقة إنسانية تماثل علاقة الأمهات بأبنائهن. في كل الأزمنة والأمكنة وعلى اختلاف المجتمعات والثقافات والعادات والتقاليد ظلت الأم عالية غالية لا يرقى الى مرتبتها مخلوق آخر. صعبٌ جداً تفسير الرابط الروحي مع مَن نتكوَّن في أرحامهن، كأن تلك الأشهر التسعة ترسم ملامح كلّ ما سوف يأتي لاحقاً، كأن حضن الأم أول الأوطان وأجمل المدائن، البحث عما يوازيه أو يضاهيه ضربٌ من المستحيل.
رُبَّ قائل ثمة أمهات يتخلين عن أمومتهن ويتركن أولادهن ولا يصحّ فيهن ما تقدّمَ وما تأخر من شعر يبدو أنه يحلِّق في عالم الخيال وينأى عن الواقع وما تضمره الحياة من خيبات ونكسات. لا ضير في هذا التساؤل، من السهل الجواب عليه بأن لكل قاعدة استثناءً، لكننا سنحاول التوسّع قليلاً، لقد خطر في بالي مثل هذا التساؤل كلَّ مرة سمعت فيها عن أم تخلت عن أسرتها أو ارتكبت خطأ في حق أبنائها، وحملت تساؤلي الى الشاعر الراحل سعيد عقل صاحب قصيدة "أمي يا ملاكي يا حبي الباقي الى الأبد" التي غنتها بصوتها السماوي فيروز. فكان جوابه أن الأم التي ترتكب اثماً ما في لحظةٍ ما لا تكون لحظتَها الأمُ التي تفعل بل الانسان الذي يضمر الخير مثلما يضمر الشرّ. بمعنى آخر أن الأمومة فعلُ خيرٍ نبيلٍ متى غاب غابت معه الأمومة وتجردت المرأة من معانيها كما يتجرد شجر الخريف من أوراقه. الأمومة فعل نقاء وصفاء وسمو وتجل، حين نولد يُقطع حبل السُّرَّة الجسدي أما الحبل الروحي فيظل ممتداً بين الأم ووليدها مدى الحياة، بل حتى الى ما بعد الحياة. كيف؟
إختبرتُ شخصياً حالة فقدان الأم، هي لحظة قاسية بل الأقسى التي يعيشها المرء، يشعر للوهلة الأولى أنه مقطوعٌ من شجرة، لكن بمرور الوقت وبعد أن تهدأ الخواطر ويجف الدمع تتبدل الحال، بعد غيابها الجسدي تحضر الأم بشكل آخر، يُمسي حضورها الروحي أوسع مدى من الحضور الجسدي. فالحضور الجسدي مرتبط بمكان وزمان محددين، أما الحضور الروحي فيتسع الى ما يتخطى المكان والزمان. هذا الحضور الروحي لم أختبره وحدي. سبق أن قدمت برنامجاً تلفزيونياً تكريمياً للأمهات بعنوان "ست الحبايب"، وقد سمعت من غالبية ضيوفي الذين فقدوا أمهاتهم ما يشابه الحالة التي أعيش، معظمهم قال أنها تحضر يومياً لا فقط في الذاكرة بل في تلافيف الروح!
مسألة أخرى، تظل الأم أماً والإبن ابناً مهما تقادمت الأيام وبلغ عدد السنين، سمعت من نساء ورجال تجاوزوا السبعين من العمر وظلوا بناتاً وصبياناً في علاقتهم بأمهاتهم. تبلغُ من العمر عِتياً، تغدو أباً تتحمل مسؤوليات إنسانية ومهنية جسيمة، وتظل أمك تسألك: أكلتَ؟ شربتَ؟ انتبه لصحتك؟ وسواها من تفاصيل لا أحد يجاريها في الانتباه اليها. تكشفكَ فوراً اذا كنت حزيناً أو مشغول البال، تشعر بك من على بُعد ألاف الأميال، ينبض قلبها على إيقاع قلبك، وتظل في ناظريها ذاك الصبي الذي تدحرج بين يديها ولفظ أول أحرفه لمناداتها: ماما. وما أحلاها من كلمة.
نكتب عن الأمومة ولا يمكننا نسيان الأمهات اللواتي خسرن أبنائهن نتيجة الحروب والنزاعات، اللواتي اضطررن لمغادرة بيوتهن وأوطانهن، وكل المكلومات اللواتي يذرفن الدمع ولا أحد يطرق بابهن أو يحمل لهن وردة أو يكتب كلمة طيبة. لا يستخفنَّ أحد بأثر الكلمة وبمفعولها السحري في النَّفْس والوجدان. أذكرُ ذات حلقة من برنامج "ست الحبايب" كنت أحاوِر سيدة سبعينية في دار للعجزة، أسألها وتجيب بشفافية وعفوية، أخبرتني أن ابنها وضعها في المأوى وما عاد يسأل عنها أبداً، قالت لي: "ليته يسأل، ليته يتصل، ليته يقول لي تعالي يا أمي نامي ليلة واحدة عندنا". بكت المرأة وبكيت، واستدركت قائلة: "ليته يقولها (أي يدعوها الى منزله)، أنا لن أذهب، لكن ليته يقولها". لا تطلب الأم أكثر من كلمة، وهل أقسى من حرمان كهذا، وهل أشد اجحافاً من بُخل المشاعر خصوصاً متى كان متعلقاً بالأم.
يُقال الدنيا أم، ونقول مَن لا يجيد الوفاء والعرفان للرحم الذي تشكَّل فيه وللحضن الذي اتسع له، للصدر الذي أرضعه حليب الحياة، لن يعرف الوفاء لأحد، لا لأرض ولا لوطن ولا لأهل أو أصدقاء، الأم هي موجزُ كلِّ هؤلاء.
أختمُ بقصيدة لي كتبتها قبل ربع قرن، صارت أغنية بصوت الفنان اللبناني أحمد قعبور، ومصاغاً بتصميم المبدعة المصرية عزَّة فهمي، ولوحات تشكيلية بريشة كثير من الرسّامين، أعيدُ نشرها تحيةً لكل أم:

التي ودَّعتني في الصباح
بضفيرةٍ قليلةٍ ويدين من دعاء
حفرتْ ظلاً على الحائط
أوقدتْ ناراً صغيرةً لأجلي.

ساكنةُ العتبة أمي
رافقتْني الى الباب
عُدْ باكراً قَالَتْ
علٌَقتْ في زندي شمساً وأحدَ عَشَرَ كوكباً.

صديقةُ الرُّقيَّات
مسحتْ جبيني بزيت راحتها
ضئيلةُ القامةِ
عباءتُها غابة، عصفورةُ حنان.

المسكونةُ بالأرواح الطيبة والأولياء
دمعتُها طريقُ العين
مَرَّةً ذرفتْ حقلاً
مَرَّةً صوتُها المساء.

خادمةُ الهيكل
يَدُها مشكاة
نَذَرْتْ خبزاً وملحاً لغيابي
حافيةً ملأت الحقل سنابل.

جارةُ السنونو
منديلُها البحيرة
ماءٌ دافقٌ على المنحدرات
مَرَّةً عناقتْني
نَبَتَ قمحاً في شرفتها
ونزلت سماء.

طاحونةُ الضحك أمي
نافورةُ ماء
أولُ الينابيع
خاتمةُ النساء.