أنصار الدعاية الروسية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٤:٢٢ ص
أنصار الدعاية الروسية

إمبي باجيو

يبدو أن كل يوم يمر يحمل لنا كشفا جديدا حول تدخل روسيا سياسيا في شؤون الدول الغربية. فمن المتصيدين الذين ينثرون بذور الخلاف بين الناخبين على تويتر إلى دعم الكرملين المزعوم لجماعات متطرفة، تعمل الدعاية الروسية على تقويض الثقة في الحكم الديمقراطي. ورغم أن الساسة الغربيين ربما يتحدثون بخشونة في الرد على الجهود التي يبذلها الكرملين لتكدير الوضع الراهن، فإن تصرفاتهم كثيرا ما تنم عن ضعف. وتشكل قدرة روسيا على التأثير على الصحافة والأدب مثالا واضحا على ذلك.

ذات مرة ذَكَرَت الكاتبة الفنلندية صوفي أوكسانن أن حرب المعلومات الروسية ناجحة لأنها تستهدف مشاركين راغبين غالبا. فخلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، كان اعتماد فنلندا اقتصاديا على المواد الخام والتكنولوجيا المجلوبة من روسيا سببا في عزوف قادتها عن استعداء الكرملين. والواقع أن هذه الظاهرة -«الفنلندية»- تساعد في توضيح لماذا طُبِعَ كتاب «أرخبيل الجولاج» للكاتب ألكسندر سولجينتسين في السويد المجاورة عندما تُرجِم إلى اللغة الفنلندية في العام 1974.

وحتى بريطانيا خضعت لمثل هذه الحسابات. في العام 1944، حاولت المؤسسة البريطانية منع نشر «مزرعة الحيوانات» للكاتب جورج أورويل، وزعم تي. إس. إليوت الذي كان محررا وكاتبا صحفيا آنذاك أن «وجهة نظر» الكتاب المعادية للسوفييت «ليست مقنعة». ويبدو أن لا أحد كان يريد إغضاب ستالين، الذي كان آنذاك حليفا لبريطانيا العظمى.
وما يزال هذا النوع من الضغط غير المباشر يحصد الضحايا حتى يومنا هذا. ففي دول البلطيق، يشعر الناس بقلق متزايد من أن تؤثر المنافسة الجيوسياسية الدائرة حول خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي يربط روسيا بألمانيا، على حرية الكُتَّاب في التعبير عن آرائهم حول نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأنا لا ألومهم. فأنا أدرك تمام الإدراك مدى خطورة معارضة المصالح الروسية. في العام 2009، قمت بتحرير سلسلة من المقالات مع أوكسانن لتوثيق الممارسات الرسمية في إستونيا عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي. وفي كتابنا بعنوان «كان الخوف وراء كل شيء»، عرضنا بالتفصيل أشكال الإرهاب التي أمسكت بخناق إستونيا في ظل الحكم السوفييتي. وعلى مدار نصف قرن من الزمن، كان أي كتاب ينتقد النظام الشيوعي يُحظَر في دول البلطيق ولا يُنشَر في فنلندا أيضا. وكان كتابنا بمثابة نقطة تحوّل. أو هكذا تصوّرنا.
كانت فكرة كتابنا مستوحاة من حادثة وقعت في العام 2007، عندما نُقِل تمثال لجندي سوفييتي، رمز قوات الاحتلال في إستونيا، من وسط تالين إلى مقبرة عسكرية في مكان آخر من المدينة. واحتجت روسيا على هذه الخطوة، واندلعت أعمال شغب مميتة وسط شائعات بأن الحكومة قررت حرمان الروس الإستونيين من حق الحداد على قتلاهم الذين وقعوا في الحرب.
في العام التالي، نشر يوهان باكمان، المحاضر في جامعة هلسنكي، كتابا عن هذه الواقعة بعنوان «الجندي البرونزي»، والذي وصف فيه إستونيا بأنها «دولة عنصرية» يتزعمها قادة غير أكفاء وأن مواطنيها عاجزون عن التصالح مع تاريخهم. وكان ناشر الكتاب صحفي أستوني المولد وضابط سابق في الاستخبارات الروسية، فلاديمير إلياسفيتش، الذي عمل في فنلندا ودول شمالية أخرى أثناء الحرب الباردة.
بعد ذلك، قام باكمان بتدريب قدرته على ممارسة النقد اللاذع في موالاة روسيا باستهدافي شخصيا. فأولا، هاجم كتاب نشرته عن صدمة أمي في جولاج سوفييتي، ثم ساعد احتجاجات منظمة ضد إصدار كتاب «كان الخوف وراء كل شيء». وبسبب هذه التهديدات، طلبنا حماية الشرطة المسلحة في يوم إصدار الكتاب في العام 2009. ورغم أن باكمان ترك منذ ذلك الحين وظيفة التدريس، والآن يكرّس القسم الأعظم من اهتمامه للحديث بإسهاب عن أكاذيب أخرى في مناصرة بوتين، وتستمر الحرب الدعائية التي تدعمها روسيا، والتي ساعد شخصيا في شنّها، في التأثير على إحساسي بالأمن. الأمر ببساطة أن النظام السوفييتي القديم القائم على الخوف يظل يعيث فسادا في الحقيقة ويعاقب أولئك الذين يدافعون عنها على الصفحة.
برغم أن جهود الدعاية الروسية ربما تهدف إلى التأثير على الحكومات، فإن الأفراد هم الذين يعانون من العواقب. وكما زعم مؤخرا دميتري تيبيريك، كبير المسؤولين التنفيذيين في المركز الدولي الإستوني للدفاع والأمن، فإن حروب المعلومات تصبح أشد خطورة على «الناشطين المدنيين» -مثل الصحفيين والكتّاب والمؤلفين- لأننا نحن من يقفون على الخطوط الأمامية.
بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن بعد سقوط الستار الحديدي، تظل روسيا محتفظة بميلها الذي صاحبها منذ العهد السوفييتي لاستغلال مخاوف الشعوب وافتقارها إلى الشعور بالأمان. ويكون نشطاؤها في أسعد حالاتهم عندما يتوقف خصومهم عن مزاولة أنشطتهم -عندما يتوقف الكتاب عن الكتابة، أو يتوقف الناشرون عن النشر. ولكن من المؤسف أن نجاحات روسيا أكثر من إخفاقاتها لأن التضليل أمر سهل، فكما قال ناعوم تشومسكي ذات يوم، لا يعرف الناس ما لا يعرفون.
الواقع أن أفضل فرصة قد تحظى بها الحقيقة هي أن يواظب الكتّاب والمؤلفون على عرض الحقائق على القراء، وبين الفينة والأخرى، نُكافَأ على هذه الجهود. في وقت سابق من هذا العام، أقامت الكاتبة الصحفية الفنلندية جيسيكا آرو دعوى قضائية ضد باكمان في المحكمة، بعد أن أصبحت هدفا لحقده منذ العام 2014، عندما بدأت في الكشف عن مصنع الكرملين «للمتصيدين» على وسائط التواصل الاجتماعي. صحيح أن نتيجة هذه القضية تظل معلقة. ولكن بأقل القليل من الحظ، سيُعاقَب باكمان على تحرّشه وهجماته التي لا تقوم على أي أساس من الصحة. بل وقد تمثل محاكمته لحظة حاسمة في تاريخ الجهود الرامية إلى مواجهة الدعاية الروسية، مما يمنح الكتّاب والصحفيين المحاصرين القدر الذي يحتاجون إليه من الشجاعة للتصدي لروسيا بطرق نادرا ما يتسنى للحكومات استخدامها.

مخرجة سينمائية ومؤلفة كتاب «الحرمان من الذكريات»