حقيقة الاستثنائية الصينية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٢/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٤:٤١ ص

أرفيند سوبرامانيان

جوش فيلمان

من الأرجنتين إلى تركيا ومن جنوب أفريقيا إلى إندونيسيا، تعود الاضطرابات المالية مرة أخرى لتقض مضاجع الأسواق الناشئة. ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل عن أكبر هذه الأسواق وربما أكثرها استعصاء على الفهم: الصين.

على مدار العقود القليلة الفائتة، بدا الأمر وكأن نمو الصين ينتهك حرمة بعض قوانين الاقتصاد الأساسية. على سبيل المثال، يؤكد قانون شتاين أنه إذا لم يكن بوسع شيء ما أن يستمر إلى الأبد، فإنه لابد أن يتوقف. ومع ذلك، تستمر ديون الصين في الارتفاع.

الواقع أن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن ديون الشركات والأسر والحكومة الصينية تزايدت بنحو 23 تريليون دولار أمريكي في العقد الأخير وحده، وأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين ارتفعت بنحو 100 نقطة مئوية، إلى أكثر من 250%. وهذه المقادير بالغة الضخامة إلى الحد الذي يجعلها تتجاوز المستوى الذي تحدث عنده الأزمات المالية عادة.
من المؤكد أن بعض ديون الصين استُخدِمَت لتوسيع قاعدتها الصناعية وبنيتها الأساسية. لكن قدرا كبيرا من هذه الديون ذهب أيضا نحو دعم مؤسسات عامة خاسرة واستثمارات لا حصر لها في مرافق عامة ومساكن زائدة عن الحاجة أو غير ضرورية.
وتشير اختلالات التوازن المحلية في الصين إلى قانون اقتصادي آخر تمكنت من كسره. في أي دولة طبيعية، يؤدي تراكم القدرة الفائضة بكثافة إلى انخفاضات حادة في الاستثمار ونمو الناتج المحلي الإجمالي. وهذا بدوره من شأنه أن يقود إلى ضائقة مالية، تعقبها أزمة إذا جرى تجاهل علامات التحذير. لكن الصين شهدت تجربة مختلفة. فقد تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي هناك، لكن الاستثمار ظل قويا، ولا يوجد ما يشير إلى نشوء ضغوط على نظامها المصرفي.
من التفسيرات الشائعة لمناعة الصين الواضحة أنها تمتلك مجمعا ضخما من المدخرات المحلية واحتياطيات هائلة من النقد الأجنبي (أكثر من 3 تريليونات دولار أمريكي)، والتي يمكن إنفاقها لتفادي الذعر المالي. ولأن الميزانية العمومية الحكومية لا تزال قوية بالقدر الكافي لإنقاذ شركات مالية غير قابلة للاستمرار على قيد الحياة، فإنها قادرة على معالجة أي مصادر ناشئة للإجهاد في هذا القطاع البالغ الأهمية.
وينتمي تفسير شائع آخر لصمود الصين إلى عالَم السياسة. إن عملية اتخاذ القرار على مستوى عالي المركزية يسمح بالتصرف السريع المتضافر، مثل شن الغارات الرسمية على التدفقات الخارجة من النقد الأجنبي. وفي مثل هذا المجتمع الخاضع للسيطرة على نحو فريد، يمكن التحكم بشكل تام في الضغوط الاجتماعية الطبيعية التي تنشأ عن الاضطرابات الاقتصادية.
بقدر ما قد تبدو هذه الحجج معقولة، فإن الوقت حان لإعادة النظر فيها. لقد أصبحت الاستثنائية الاقتصادية التي تمتع بها الصين تحت تهديد عاصفة كاملة من الضغوط القائمة ــ وبالتحديد تراكم الديون المحلية ــ والتعقيدات والمضاعفات الجديدة، بما في ذلك الحواجز التجارية الأميركية، والمقاومة الجيوسياسية التي تلقاها مبادرة الحزام والطريق الصينية، والظروف النقدية المتزايدة الشدة، وخاصة في الولايات المتحدة.
بعد الأزمة المالية التي اندلعت العام 2008، حولت الصين نموذجها الاقتصادي بعيدا عن الصادرات ونحو مصادر النمو الداخلية. لكن إعادة التوازن على هذا النحو تتطلب قدرا متزايدا من الديون والاستثمارات، مما يوفر بالتالي مخاطر انهيار أعظم. ونتيجة لهذا، كان لزاما على الحكومة أن تتحرك بحذر، فتوفر فقط مقادير صغيرة باعتدال من الحوافز للاقتصاد حسب الحاجة. ولا يوجد دليل إرشادي لإدارة عملية إعادة التوازن بهذا الحجم. فالتدخلات السياسية التي تبدو معتدلة في اللحظة الآنية ربما يتبين أنها كانت مفرطة. وعند مرحلة ما، سيؤكد قانون شتاين ذاته.
وتُعَد السياسة التجارية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأولى بين المخاطر التي تهدد النمو الصيني. حتى الآن، لم يتأثر سوى ما قيمته 50 بليون دولار من الصادرات الصينية بفِعل تعريفات إدارة ترامب الجمركية. ولكن في يوليو، أعلن ترامب عن جولة جديدة من التعريفات تستهدف ما قيمته 200 بليون دولار إضافية من السلع الصينية، وهو ما يمثل نحو 15 % من إجمالي صادرات الصين إلى الولايات المتحدة. وعلى نحو يعكس ضعفها المتزايد، كانت ردود أفعال الصين إزاء تهديدات ترامب المستمرة ميالة إلى المواءمة بشكل ملحوظ. ويأتي تهديد ثان للطلب الخارجي من استنفاد سياسات الصين التجارية. في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طورت الصين صناعة تصدير ضخمة إلى حد استثنائي، جزئيا من خلال السماح لقيمة عملتها بالانخفاض إلى ما دون قيمتها الحقيقية. غير أنها في الآونة الأخيرة عملت على إدامة هذا النهج من خلال سبل أخرى، وعلى وجه التحديد مبادرة الحزام والطريق، التي تستخدمها لتمويل مشتريات دول أخرى من السلع والخدمات الصينية. ولنطلق على هذا وصف «المذهب التجاري الصيني 2.0».
المشكلة هي أن النسخة الجديدة من المذهب التجاري تتعرض الآن للهجوم سياسيا واقتصاديا. من الناحية السياسية، كان المستفيدون من القروض الصينية ــ من سريلانكا إلى ماليزيا إلى ميانمار ــ يعربون عن اعتراضهم على مبادرة الحزام والطريق ونزعتها الإمبريالية الجديدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، أسفرت الشروط الشاقة لتمويل مبادرة الحزام والطريق عن تراكم الديون على نحو مثير للقلق في ما لا يقل عن ثماني دول، وفقا لمركز التنمية العالمية. على سبيل المثال، اضطرت ماليزيا إلى إلغاء مشاريع تدعمها الصين بقيمة 22 بليون دولار. واضطرت سريلانكا إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي طلبا للمساعدة، بسبب التأثير الذي خلفته الواردات الصينية المفرطة على حساباتها الجارية. وربما تضطر باكستان قريبا إلى القيام بنفس الأمر. ومع تزايد عدد الدول التي تشعر بالقلق إزاء مبادرة الحزام والطريق، فإنها ستقترض وتستورد بمقادير أقل من الصين.
من ناحية أخرى، يعمل الارتفاع المضطرد في أسعار الفائدة الأميركية على خلق صدمة ثالثة. فمع تجاوز أسعار الفائدة الأميركية نظيراتها الصينية، سوف يتدفق رأس المال إلى خارج الصين، كما حدث في الأسواق الناشئة هذا العام. وبالتالي، سيواجه قادة الصين معضلة الأسواق الناشئة الكلاسيكية. وإذا سمحوا للرنمينبي بمزيد من ضعف القيمة، فقد يؤدي هذا إلى تفاقم هروب رؤوس الأموال في الأمد القريب ويستدعي الاتهامات بالتلاعب بالعملة من جانب الولايات المتحدة. ولكن إذا كانوا راغبين في دعم العملة، فربما يضطرون إلى إنفاق تريليون دولار أخرى من الاحتياطيات، كما حدث في العام 2015.
ولكن بدلا من ذلك، تستطيع الحكومة أن تعيد فرض ضوابط رأس المال المشددة. لكن هذا من شأنه أن يخنق الطلب الخارجي، فيقوض الإدارة الاقتصادية على نطاق أوسع، ويضعف مصداقية مطالبة الصين بالزعامة الاقتصادية العالمية (بما في ذلك تدويل الرنمينبي). وسط هذه العاصفة الكاملة من التحديات الاقتصادية، هناك أيضا تساؤلات متنامية حول ما إذا كانت سيطرة الرئيس الصيني شي جين بينج على الأحداث قوية إلى الحد الذي يود أن يتصوره الجميع. ويحسن شي صنعا إذا تذكر ليس فقط قانون شتاين، بل وأيضا قانون روديجر دورنبوش، الذي يؤكد أن «قدوم الأزمة يستغرق وقتا أطول كثيرا مما نتصور، ثم تحدث الأزمة بسرعة أكبر كثيرا مما كنا لنتصور».
إن آجلا أو عاجلا، سوف تُفسِح الاستثنائية الصينية المجال أمام قوانين الاقتصاد. وينبغي للعالَم أن يعد نفسه. وقد تكون العواقب وخيمة ــ فلن تشبه أي شيء شهده العالَم في تاريخه الحديث.

أرفيند سوبرامانيان: كبير المستشارين الاقتصاديين لحكومة الهند سابقا

جوش فيلمان: مدير مؤسسة جي إتش للاستشارات