الحقيقة الضائعة بين «العسكر»

الحدث الخميس ٠٦/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٥:٠٨ ص
الحقيقة الضائعة بين «العسكر»

يانجون (رويترز)

مرة تلو الأخرى بدا أن حكومة ميانمار عرضة لخطر انكشاف حقيقة محاكمتها لصحفيين شابين فضحا أمر مذبحة راح ضحيتها عشرة رجال مسلمين وتورط قوات الأمن في ارتكابها. في 20 أبريل كشف شاهد من شهود الادعاء في جلسات تمهيدية للمحاكمة أن الشرطة دست وثائق عسكرية لصحفيي رويترز وا لون وكياو سوي أو بهدف الإيقاع بهما بتهمة مخالفة قانون الأسرار الرسمية في البلاد.

وأثار ذلك الاعتراف شهقات الاندهاش من الحاضرين في قاعة المحكمة.
وقال ضابط شرطة للمحكمة إنه أحرق الملاحظات التي دونها وقت القبض على الصحفيين لكنه لم يفسر ما دعاه لإحراقها. وناقض عدد من شهود الادعاء رواية الشرطة عن مكان القبض على الصحفيين. وسلم ضابط شرطة برتبة ميجر بأن المعلومات «السرية» التي قيل إنها كانت بحوزة الصحفيين لم تكن في واقع الأمر سرية.
وخارج قاعة المحكمة سلم مسؤولون عسكريون بأن المذبحة قد وقعت فعلا.
وأيدت هذه المفاجآت المذهلة الدفوع الرئيسية التي استخدمها الدفاع وتمثلت في إن القبض على الصحفيين كان «مدبرا ومخططا له من قبل» لإسكات مساعيهما للكشف عن الحقيقة.

تحقيق استقصائي

عند القبض عليهما في ديسمبر كان وا لون، وعمره الآن 32 عاما، وكياو سوي أو، وعمره الآن 28 عاماً، يعملان في إعداد تحقيق استقصائي لرويترز في مقتل 10 من المسلمين الروهينجا خلال حملة عسكرية في ولاية راخين بغرب البلاد. وأدى العنف إلى فرار أكثر من 700 ألف من أفراد الروهينجا إلى بنجلاديش حيث يعيشون الآن في مخيمات ضخمة.
ونشرت رويترز تحقيقها في المذبحة في الثامن من فبراير وكشف التحقيق عن مقتل ثمانية رجال واثنين من طلبة المدارس الثانوية في سبتمبر الفائت في قرية إن دين. وأدى التقرير إلى مطالب دولية بإجراء تحقيق ذي مصداقية فيما حدث من سفك للدماء في راخين.
وأتاح التقرير وما أرفق به من صور أول تأكيد مستقل لما حدث في إن دين. ويظهر في صورتين من الصور التي حصل عليها الصحفيان رجال راكعون وفي إحداها تبدو أيديهم مرفوعة خلف الأعناق وفي صورة أخرى تبدو أيديهم مربوطة خلف ظهورهم. وتبين صورة ثالثة جثثهم وقد بدا أن بعضها مصاب بطلقات الرصاص وأخرى بجروح كبيرة في قبر سطحي ملطخ بالدماء.

ليلة القبض

تم القبض على وا لون وكياو سوي أو مساء يوم 12 ديسمبر وخلال شهادة أدلى بها الاثنان في يوليو وصفا تلك الليلة وما تلاهما من جلسات استجواب. وقالا للمحكمة إن الشرطة غطت رأسيهما عند نقلهما إلى مقر الشرطة لاستجوابهما.
وشهد الاثنان بأنهما حرما من النوم ثلاثة أيام خلال الاستجواب. وقال كياو سوي أو إنهما تعرضا للعقاب وفرض عليهما الركوع على الأرض لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات. ونفى شاهد من الشرطة حرمان الصحفيين من النوم وإجبار كياو سوي أو على الركوع.
وقال وا لون في وصف ليلة اعتقالهما إنه وزميله اعتقلا على الفور تقريبا عقب تسلم وثائق في مطعم من أحد أفراد الشرطة كانا يحاولان إجراء مقابلة معه للتقرير الذي يعدانه عن المذبحة. وشهد وا لون بأن الشرطي دعاه للقائه وقال إن كياو سوي أو رافقه.
وشهد الاثنان بأن رجالا يرتدون ملابس مدنية القوا القبض عليهما عند خروجهما من المطعم وكبلوا أيديهما وزجوا بهما في سيارتين منفصلتين. وروى وا لون في المحكمة أن رجلا يبدو أنه المسؤول اتصل وهم في الطريق إلى مركز الشرطة بضابط كبير وقال له «أمسكنا بهما يا سيدي».
وشهد وا لون إن الشرطة عاتبته في إحدى المرات لإعداد تقرير عن الروهينجا. وروى أن أحدا قال لهما «أنتما الاثنان بوذيان. فلماذا تكتبان عن الكالار في وقت مثل هذا؟ فهم ليسوا مواطنين». ويستخدم لفظ الكالار وهو كلمة قبيحة على نطاق واسع في وصف المسلمين في ميانمار وخاصة الروهينحا ومن هم من أصول من جنوب شرق آسيا.

علامة الاستحسان

انعقدت الجلسة الأولى في 27 ديسمبر في يوم شهد سقوط أمطار خفيفة. وتجمع بعض الصحفيين خارج المحكمة قبل الفجر خشية أن تعجل الشرطة بالإجراءات. وارتدى كثيرون من رجال الإعلام المحلي قمصانا سوداء تضامنا مع الصحفيين.
وراحت بان إي مون زوجة وا لون تتلو أدعية فيما بين مقابلات مع الصحفيين. وظلت نيو نيو آيي شقيقة كياو سوي أو بالقرب منها دون أن تنطق بكلمة تقريبا.
وعندما دخلت سيارة تويوتا بيضاء فناء المحكمة اندفعت بان إي مون ونيو نيو آيي بين المصورين المتدافعين واحتضنتا الصحفيين أثناء اقتيادهما إلى داخل قاعة المحكمة. وفي غضون دقائق أمرت المحكمة بتجديد حبسهما 12 يوماً على ذمة القضية. وقوبل طلب إخلاء سبيلهما بكفالة بالرفض في أول فبراير.
وبعد ذلك نقل الصحفيان في شاحنة بيك أب كل أسبوع تقريبا في رحلة طولها نحو نصف كيلومتر إلى محكمة شمال يانجون الجزئية وهي عبارة عن مبنى متهدم من طابقين مشيد بالطوب الأحمر. وكان وا لون وكياو سوي أو يصلان إلى المحكمة مكبلي الأيدي.
وبدا وا لون وهو يرفع قبضتيه أمام صدره أشبه بملاكم يدخل إلى حلبة الملاكمة على وجهه ابتسامة ويرفع أصبعه بعلامة الاستحسان أمام الكاميرات.

لقاء أسري

وإذا ما أمر القاضي باستراحة خلال سير المحاكمة كان يسمح للرجلين بالالتقاء بأسرتيهما في غرفة جانبية حيث يتم إطعامهما ويتبادلان الأحضان مع أقاربهما.
كانت موي ثين واي زان ابنة كياو سوي أو، وهي الآن في الثالثة من عمرها، تتعلق بأبيها. وكان يمسح بيديه المكبلتين بكل حرص على رأسها ويمطر وجهها بالقبلات.
وكانت زوجة وا لون تجلس بالقرب من زوجها قدر ما استطاعت خلال الجلسات. وقد وضعت ابنتهما الأولى في العاشر من أغسطس. كانت قاعة المحكمة تسع حوالي 40 شخصا وكانت تمتلئ بأفراد الأسرتين وأصدقاء وصحفيين ودبلوماسيين أجانب. وكانت العصافير تنسل من فتحات فوق الأبواب وتبني أعشاشا لها فوق الدعامات. وفي بعض الأحيان كانت قطة تتجول في أرجاء المحكمة. ومن حجرة قريبة يتناهى إلى الأسماع صوت النقر على آلة كاتبة قديمة.

محكمة بلا كهرباء
ومن المعتاد أن ينقطع التيار الكهربائي وكانت الحرارة ترتفع سريعاً في القاعة خلال فصل الصيف الذي تشتد فيه الرطوبة عندما تهدأ سرعة مروحة السقف الوحيدة شيئا فشيئا قبل أن تتوقف.

وفي خطوات أصبحت مألوفة كان أحد موظفي المحكمة يدفع الناس جانباً لجلب مولد كهربائي ودفعه إلى ممر جانبي حيث ينطلق أزيزه لحين انتهاء الجلسة.

الإيقاع به والقبض عليه
في العاشر من أبريل وفي خطوة كانت اعترافاً بصحة تقرير رويترز عن مذبحة قرية إن دين أعلن الجيش الحكم على سبعة جنود «بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة في منطقة نائية» لمشاركتهم في قتل الرجال العشرة.

وبعد عشرة أيام بدا أن القضية التي يحاكم فيها وا لون وكياو سوي أو قد منيت بانتكاسة عندما استمعت المحكمة لرواية الصحفيين عن الأحداث من أحد شهود الادعاء.
فقد قال الكابتن موي يان ناينج من كتيبة شرطة الأمن الثامنة شبه العسكرية إن الصحفيين اعتقلا في الواقع وهما يغادران مطعما ويمسكان في أيديهما بوثائق تسلماها للتو من ضباط شرطة في إطار خطة نصبت للإيقاع بهما.
وقبل القبض على الصحفيين أجرى وا لون مقابلات مع عدد من أفراد الكتيبة الثامنة عن حملة الجيش في ولاية راخين. وقال له ثلاثة ضباط على الأقل أن الوحدة دعمت عمليات الجيش في الولاية. وقال موي يان ناينج للمحكمة إن ضابط الشرطة البريجادير جنرال تين كو كو الذي قاد التحقيق الداخلي فيما قيل للصحفيين أمر ضابطا بترتيب لقاء مع وا لون في تلك الليلة لتسليمه «وثائق سرية من الكتيبة الثامنة». وشهد موي يان ناينج بأن البريجادير جنرال تين كو كو سلم الوثائق لفرد من الشرطة «وطلب منه أن يسلمها إلى وا لون». ونقل الشاهد عن الضابط قوله: إنه عندما يغادر وا لون المطعم ستتولى الشرطة المحلية «الإيقاع به والقبض عليه».
وأضاف موي يان ناينج: «قال البريجادير جنرال تين كو كو لأفراد الشرطة «إذا لم تأتوا بوا لون فسيكون مصيركم السجن».
وفي الأيام التي أعقبت القبض على موي يان ناينج تم طرد زوجته وأبنائه الثلاثة من المسكن التابع للشرطة الذي يقيمون به في مدينة نايبيتاو وحكم عليه بالسجن عاما لمخالفته قانون انضباط الشرطة بالاتصال بوا لون.
وتناقضت أقوال فرد الشرطة الذي قابل الصحفيين في المطعم قبل القبض عليهما بلحظات مع أقوال موي يان ناينج. فقد نفى ذلك الشرطي واسمه ناينج لين أنه سلم وثائق سرية للصحفيين للإيقاع بهما. ونفى أيضا الاتصال بوا لون لدعوته إلى لقاء في 12 ديسمبر.
إلا أن محامي الدفاع تان زاو أونج قال خلال استجواب الشاهد إن سجلات هاتفية أظهرت أن ناينج لين اتصل بالصحفي ثلاث مرات في ذلك اليوم.
وفي النهاية ثبت أن قدرة الدفاع على كشف الثغرات في قضية الادعاء غير كافية. فقد كان من شأن فضح وا لون وكياو سوي أو لما ارتكب من فظائع بحق أقلية عرقية ودينية.