عودة رجل أوروبا المريض

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٣/سبتمبر/٢٠١٨ ٠١:١٣ ص

يوشكا فيشر

لقد كانت أحد أهم القضايا الجيوسياسية في أوروبا القرن التاسع عشر ما كان يطلق علية اسم المسألة الشرقية. لقد كانت الإمبراطورية العثمانية والتي كانت تعرف عندئذ باسم «رجل أوروبا المريض» تتفكك بسرعة ولم يكن احد يعرف آنذاك من هي القوة الأوروبية التي ستخلفها وعندما حل التدمير الذاتي المتمثل في الحرب العالمية الأولى في نهاية المطاف، لم يكن من المصادفة أن تلك الحرب انطلقت من البلقان وهي ملعب جيوساسي للإمبراطوريات العثمانية والنمساوية-الهنغارية والروسية.

لقد جاءت نهاية تلك الامبراطوريات الثلاث العظام بعد الحرب وعندما قام الحلفاء بتقسيم الإمبراطورية العثمانية، انسحب الجنرال مصطفى كمال أتاتورك والجيش التركي المهزوم الى الأناضول حيث تمكنوا وبنجاح من هزيمة التدخل اليوناني ورفضوا لاحقا لذلك معاهدة سيفر والتي حلت مكانها معاهدة لوزان وهي المعاهدة التي مهدت الطريق لتأسيس جمهورية تركيا.

لقد كان طموح اتاتورك يتمثل في تحويل تركيا الى دولة حديثة وعلمانية تنتمي إلى أوروبا والغرب وليس للشرق الأوسط ومن أجل تحقيق ذلك الهدف، حكم بشكل سلطوي وانشأ دولة هجينة مبنية على أساس حكم عسكري على ارض الواقع وديمقراطية متعددة الأحزاب وخلال فترة القرن العشرين، نتج عن ذلك الترتيب أزمات متكررة تم خلالها استبدال الديمقراطية بدكتاتوريات عسكرية مؤقتة.
بعد سنة 1947، تأثرت السياسة التركية بشكل كبير بالحرب الباردة وفي سنة 1952 انضمت تركيا للناتو وأصبحت واحدة من حلفاء الغرب الذين لا يمكن الاستغناء عنهم ولعقود عديدة استخدمت تركيا موقعها الإستراتيجي بين شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود من اجل حماية الخاصرة الجنوبية للتحالف من التعديات السوفيتية.ومع ذلك بقيت تركيا كيان سياسي غير مستقر والتأرجح الدائم بين الديمقراطية والحكم العسكري أوقف تقدمها تجاه التحديث وبالنسبة لأنصار الديمقراطية من الأتراك فإن افضل أمل للبلاد كان يتمثل في اوروبا والانضمام الرسمي للاتحاد الأوروبي هو بمثابة إشارة على انتهاء عملية التحديث تلك وبينما احتفظ العثمانيون بالسيطرة على الشرق الأوسط لقرن من الزمان فإن تركيا ستصبح عضو كامل الصلاحيات في الغرب.
لقد انضمت تركيا سنة 1995 إلى اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي وعند وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي للسلطة سنة 2002، بدت البلاد وكأنها قد توجهت نحو أوروبا وللابد. لقد سعت حكومات حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوجان وبالشراكة مع حركة الواعظ الإسلامي فتح الله غولن الى تبني إصلاحات واسعة مؤسساتية واقتصادية وقضائية بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام وهو شرط مسبق ضروري من اجل عضوية الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة الى ذلك وخلال السنوات الأولى لفترة رئاسة أردوجان للوزراء،شهدت تركيا تحديث سريع ونمو اقتصادي قوي مما جعلها تقترب كثيرا من الاتحاد الأوروبي وبحلول سنة 2011 عندما حل الربيع العربي، كانت هناك إشادة محقة بتركيا كنموذج ناجح «للديمقراطية الإسلامية» والتي يتم فيها الجمع بين الانتخابات الحرة والنزيهة وبين حكم القانون واقتصاد السوق.
وبعد مضي سبع سنوات، يبدو أننا اصبحنا في عالم مختلف تماما فتركيا تستعيد وبسرعة لقبها «كرجل أوروبا المريض» ونظرا لموقعها الاستراتيجي وإمكاناتها الاقتصادية والبشرية، كان من المفترض أن تتحرك تركيا قدما باتجاه مستقبل رائع خلال القرن الحادي والعشرين ولكن عوضا عن ذلك فإنها تتراجع نحو القرن العشرين تحت راية القومية والتوجه مجددا نحو الشرق وعوضا عن تبني التحديث الغربي، ترمي تركيا بحظوظها في الشرق الأوسط والأزمات الدائمة لتلك المنطقة.
إن أردوجان والذي تولى الرئاسة سنة 2014 كان قد أشرف على التحديث السريع لتركيا وتراجعها السريع كذلك ولقد كانت لديه الفرصة لأن يحذو حذو آتاتورك وأن يكمل مهمة دمج تركيا بالغرب ولكنه فشل في ذلك.
ما الذي يفسر هذه المأساة ؟ إن أحد تلك الاحتمالات هي أن أردوجان قد أصابته الثقة الزائدة خلال فترة الازدهار الاقتصادي التي سبقت الأزمة المالية سنة 2008 وهناك احتمالية أخرى بأنه قد اصبح يشعر بالاستياء من الغرب وذلك بسبب إذلال تعطيل عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وطموحاته السلطوية الخاصة به والتي سعى أخيرا لتحقيقها بشكل جدي بعد الانقلاب العسكري الفاشل في صيف سنة 2016.
على أي حال فلقد ضيع اردوجان فرصة نادرة لتركيا والعالم الإسلامي بشكل عام فبلاده تعاني حاليا من أزمة العملة وهي أزمة من صنع يده وحتى أنها يمكن ان تواجه امكانية الإفلاس على المستوى الوطني وبينما يقوم بشكل متزايد بتقسيم ولاءاته بين الشرق والغرب، فإنه يخاطر بزعزعة استقرار الشرق الأوسط بشكل أكبر. لقد اندلعت مجددا الصراعات العرقية الداخلية في تركيا-وخاصة مع الأكراد- بكامل قوتها وحتى على الرغم من أن التجارب السابقة تظهر انه لا يمكن حلها عسكريا وبفضل أردوجان أصبحت تركيا جزءا من المشكلة في المنطقة بدلا من الحل.ولكن أهمية تركيا الاستراتيجية لأوروبا ما تزال باقية فملايين المواطنين الأوروبيين هم من أصول تركية وسوف تستمر تركيا بجسر الهوة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب علما انه تحت ظل حكم أردوجان، لم تعد تركيا مرشحا محتملا لعضوية الاتحاد الأوروبي ولكن يجب ان يركز الاتحاد الأوروبي على تحقيق الاستقرار في تركيا وإنقاذ ديمقراطيتها.
في واقع الأمر فإن تركيا غير مستقرة هي آخر شيء تحتاجه أوروبا وبغض النظر عن تعاطف المرء مع اردوجان أو كراهيته له فإن أمن أوروبا يعتمد بشكل كبير على تركيا والتي استوعبت ملايين المهاجرين واللاجئين الهاربين من صراعات الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة ومن أجل كل من الاستقرار الأوروبي والديمقراطية التركية، يتوجب على الاتحاد الأوروبي مواجهة أزمة تركيا بالصبر والبراجماتية المبنية على أساس المبادئ الديمقراطية الخاصة به.

وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من سنة 1998 إلى سنة 2005