مسقط - ش
تدخل د.سعيدة بنت خاطر الفارسي تحدياً علمياً وإبداعياً مغايراً حين تقرر الخوض في غمار البحث والتقصي عن الشعر العماني في دولة النباهنة في عمان، وهي الفترة التي يكتنفها الكثير من الغموض وتدور حولها الأسئلة، نظرا لضآلة المادة العلمية التي حفظها التاريخ العماني عن هذه الحقبة من تاريخ عمان، التي تمتد إلى أكثر من خمس مائة عام.
هذا ما تتصدى الدكتورة الشاعرة سعيدة بنت خاطر الفارسي لدراسته في كتابها (العصر الذهبي للشعر في عُمان دولة النباهنة: دراسة نقدية)، الذي قسمته إلى تهيئة ومدخل وثلاثة أبواب.
تناولت المؤلفة في مدخل الكتاب توثيق العصر ونتاج أبرز شعرائه.
وتتطرق في هذا المدخل لدراسة للحدود الزمانية والمكانية لدولة النباهنة، وأصولهم ونسبهم، وسمات العصر النبهاني، إلى جانب توثيق مادة العصر وأبرز شعرائه.
في الباب الأول تدرس د.سعيد بنت خاطر الفارسي التجربة الشعرية في عصر النباهنة معرجة على أبعادها النفسية ومحاورها ممثلة في الغزل والمديح والفخر والحماسة والطبيعة والرثاء.
أما الباب الثاني الذي يشتمل على الدراسة الفنية للشعر في دولة النباهنة فقد قسمته المؤلفة إلى فصلين.
تناول الفصل الأول موضوع الصورة الشعرية من حيث منابعها ومصادرها.
وبناء الصورة، إلى جانب الظواهر الفنية المساهمة في تشكيل الصورة.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب تناولت المؤلفة موضوع المعجم الشعري أو "اللغة" في زمن النباهنة.
وتطرقت في هذا السياق إلى عدة تجارب شعرية في تلك الحقبة مثل الستالي والنبهاني والكيذاوي واللواح.
كما تناولت سمات بناء القصيدة في العصر النبهاني، والظواهر اللغوية الشائعة في العصر، والإفلات من ظاهرة الضعف اللغوي.
وخصصت الفصل الثالث للموسيقى فناقشت الأوزان والقافية والظواهر الموسيقية الشائعة في العصر والظواهر الموسيقية ذات الارتباط بالقافية.
وترى د.سعيدة الفارسي أن العصر النبهاني يشكل علامة مفارقة كبيرة في أذهان العمانيين من حيث كونه أزهى عصور الأدب والشعر في تاريخ الأدب العماني، وفي الوقت ذاته عُدَّ من عصور الظلام والفساد والانحطاط، ووصف حكامه بالجبابرة.
وإذا كان الأدب في عُمان لم يحظَ عبر عصوره المختلفة باهتمام مؤرخي الأدب في الوطن العربي، بل كان نصيبه الإهمال والتجاهل الكبير، فقد قام المؤرخون العمانيون بسدِّ هذه الثغرة، واهتموا بتسجيل تراثهم الثقافي، وحفظوه من الضياع، ولكن هؤلاء المؤرخين، كما ترى المؤلفة، أسقطوا من حسابهم واهتمامهم عصرا أدبيا زاهيا امتدَّ في عمان ما يقارب أكثر من خمسة قرون (من الخامس إلى أوائل الحادي عشر الهجري) وهو العصر النبهاني، وتذهب المؤلفة إلى أن الأمر تجاوز عدم الاهتمام والتجاهل إلى طمس المعالم وتشويه الحقائق، ونظرا لهذا التجاهل وتلك المفارقة، مع ندرة الدراسات النقدية حول نتاج العصر، جاءت مغامرة الكشف عن إشكالاته، وتبدتْ أعمق هذه الإشكالات في ندرة المصادر والمراجع العمانية والعربية والأجنبية التي تناولت العصر.
لقد ارتحل نتاج هذا العصر ودواوينه غربا وشرقا حتى وجدنا للكيذاوي على سبيل المثال، سبع نسخ مخطوطة حتى كتابة هذا الكتاب، بعضها جاء من خارج عمان، كنسخة الأحقاف ونسخة مكتبة لندن ونسخة ستراسبورج.
هذا بالإضافة للمخطوطات العمانية الأخرى للديوان نفسه الموجودة في وزارة التراث ا والثقافة ومكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي -رحمه الله-، ونسخة غير مكتملة وصلت للمؤلفة صورة منها من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
وترى المؤلفة أن العصر النبهاني اتسم بشدة الصراع والحروب بين أمراء النباهنة وخصومهم، وبينهم وبين ما تتعرض له عُمان من غزو خارجي، وكان نتيجة هذه الصراعات أن تعرض نتاج العصر العلمي والإبداعي والثقافي بشكل عام للإهمال والضياع وللحرق المتبادل بين المتنازعين.
ولأن الدراسة في منطلقها، ليست دراسة تاريخية، وتنحو بمجملها نحو الشعر والإبداع، فإن الوقوف التاريخي سيكون عابرا لتمهيد الخلفية التي انطلق منها شعراء العصر، ومؤثرات الإبداع لديهم.
وفي غياب المصادر والمعلومات يُعدُّ الشعر مصدرا من مصادر التاريخ والتوثيق، وهذا ما احتكمت إليه المؤلفة في تحديد الفترة الزمنية لحكم النباهنة، وفي التقاط صورة العصر وملامحه الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية.
وتقرر المؤلفة أنه لعل أهمية هذا العصر لا تقتصر على كونه العصر الذهبي للشعر في عمان، بل لكونه يعد من العصور الأدبية الفريدة والمتميزة للأدب العربي عامة، وذلك لأنه قد أفلت من ظاهرة الضعف اللغوي السائد في الحواضر العربية الكبرى آنذاك كبغداد ودمشق والقاهرة.
وقد شكل شعراء العصر تيارا مضادا رافضا لضعف اللغة وسيطرة الزخرف والمحسنات البديعية وطغيان الشكل الخارجي على المضمون والتلاعب اللفظي على التجويد الفني للصورة واللغة.
ومن ثم كان شعراء هذا العصر في طليعة من قام بحركة الإحياء والبعث لمتانة اللغة والمحافظة على جودتها، ولهذا يستحق العصر النبهاني أن يدرج ضمن عصور الإحياء والبعث والمحافظة على ديباجة القصيدة العربية في تأريخ الأدب العربي عامة.
وتستنتج المؤلفة أنه نتيجة لهذا جاء معجم العصر أقرب للمعجم الجاهلي، حيث قوة اللغة ونصاعتها، ونظرا لصعوبة ذلك المعجم، استدعى الأمر شرح بعض المفردات، بعد كثير من الشواهد الشعرية التي رأت المؤلفة ضرورة احتياجها للتوضيح حتى تتم الفائدة للقارئ.
ويشتمل الكتاب على جداول إحصائية وملاحق لصور المخطوطات التي تم تناولها الدراسة.
وتخلص المؤلفة إلى أن هذا العصر ما زال زاخرا بكنوز لم تتفتح مغاليق أبوابها بعد، ويحتاج منا لكثير من الجهد لبلورة تراثه، ونفض غبار الإهمال والتجاهل عنه.