التكلفة الاقتصادية لأردوجان

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٢/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٨:١٥ ص

تيمور كوران
داني رودريك

لطالما فقد النموذج السياسي لتركيا بريقه، لكن الأزمة الدبلوماسية الحالية مع الإدارة الضالة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب دفعت اقتصاد البلاد إلى أزمة العملة الخانقة. وعلى مدى الإثني عشر شهراً الفائتة ، فقدت الليرة التركية ما يقرب من نصف قيمتها. وبما أن البنوك والشركات التركية لديها الكثير من الديون بالعملات الأجنبية، فإن السقوط السريع لليرة يهدد بانهيار معظم شركات القطاع الخاص.

بعد فوزه في الانتخابات الأولى التي أجريت في يونيو، بعد تحول رسمي لتركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بدأ الرئيس رجب طيب أردوجان يحكم البلاد بشكل رسمي. وهو يعتمد على وزراء الحكومة الذين يعينهم على أساس ولائهم (أو وجود روابط عائلية مع أردوجان)، بدلاً من كفاءاتهم.

ومنذ أكثر من عقد من الزمان، أعطت الأسواق المالية امتيازات لأردوجان، الذي شغل منصب رئيس الوزراء حتى العام 2014، وقدمت قروضا كبيرة للاقتصاد التركي. وأصبح النمو الاقتصادي يعتمد على التدفق المستمر لرأس المال الأجنبي، الذي تم من خلاله تمويل الاستهلاك المحلي والاستثمارات النشطة في الإسكان والطرق والجسور والمطارات. نادرا ما تنتهي هذه الأشكال من النمو الاقتصادي بشيء جيد. وكان السؤال الحقيقي الوحيد هو متى سيحدث هذا بالضبط.
السبب المباشر في قرار إدارة ترامب بفرض عقوبات (والتهديد بالمزيد) هو إجبار تركيا على إطلاق سراح أندرو برونسون، الأسقف البروتستانتي الأمريكي من أزمير، الذي تم القبض عليه أثناء عمليات التطهير التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوجان في يوليو 2016، والتي تم أثناءها اعتقال 80.000 شخص، وفصل 170.000 آخرين، وإغلاق ثلاثة آلاف مدرسة وجامعات ومساكن للطلاب ، وإقالة 4400 من القضاة والمدعين العامين. تم اتخاذ هذه الإجراءات القاسية خلال حالة الطوارئ، وتم تنفيذها بشكل عام بموجب أوامر من دائرة أردوجان. لقد كانت مقاومة تعليق الحريات الأساسية ضئيلة للغاية، حيث تخضع وسائل الإعلام لرقابة صارمة، إلى جانب إضعاف المجتمع المدني من خلال القمع والخوف الدائم. برونسون ليس سوى أحد آلاف الأشخاص الذين اتُهموا بالإرهاب خلال عمليات القمع التي بدأت بعد العام 2016.
وكما هو الحال في أي أزمة مالية ناجمة عن سياسة اقتصادية غير مستدامة، ستكون هناك حاجة إلى اتخاذ تدابير متزامنة ومتوسطة الأجل لإيجاد سبل للخروج منها. على المدى القصير، يحتاج الاقتصاد إلى التدابير اللازمة لتعزيز الثقة من أجل استقرار الأسواق المالية. قد يحتاج البنك المركزي التركي إلى رفع أسعار الفائدة، على الرغم من موقف أردوجان السلبي تجاه هذه الخطوة. ومن الضروري وجود برنامج ملموس وموثوق به لزيادة الانضباط المالي وإعادة هيكلة ديون القطاع الخاص. وربما، من الضروري تقديم طلب للحصول على مساعدة مالية مؤقتة من صندوق النقد الدولي.
ومع ذلك، لن تتمكن هذه الإجراءات القصيرة الأجل من حل مشكلة ضعف الاقتصاد على المدى الطويل، والنابع من نظام السلطة الشخصية التي أنشأها أردوجان.
تركيا لم تكن لديها أبدا ديمقراطية سليمة. قبل تولي أردوجان السلطة في العام 2003، توقفت الحياة الديمقراطية للبلاد أربع مرات نتيجة التدخلات العسكرية. ومع ذلك، كان لدى تركيا نظام من الضوابط والتوازنات السياسية التي قيدت حتى الجيش، وتم تغيير السلطة بشكل متكرر من خلال انتخابات حرة ونزيهة على نحو متزايد. لم يكتسب أي فرد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية صلاحيات غير محدودة. وانطلاقا من قاعدة ضعيفة بعد تأسيس نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب في العام 1946، تطور المجتمع المدني، مما أجبر الحكومات على التشاور مع جمعيات الأعمال والنقابات والأكاديميين والصحافة ومجموعات أخرى مختلفة من المصالح الخاصة. في سنواته الأولى في منصبه، عندما كان لا يزال يشعر بالتهديد من جانب النخبة العسكرية والعلمانية، تظاهر أردوجان بتأييد الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقام بمبادرات لصالح الأقلية الكردية التي تم قمعها منذ فترة طويلة. وقد تم خداع الليبراليين المحليين وأنصارهم في الغرب من خلال قصصه عن «الإسلام الديمقراطي»، التي آمنوا بها.
ولكن حتى مع اكتسابه الثناء في الغرب، بدأ أردوجان في إزالة وسائل الإعلام المستقلة من خلال فرض غرامات ضريبية هائلة. وأضعف حكم القانون من خلال محاكمات ضد الجنرالات وغيرهم من العلمانيين البارزين. ثم توجه أردوجان نحو الحكم الاستبدادي بعد أن انفصل عن حليفه فتح الله غولن، الواعظ المسلم الذي يقيم في الولايات المتحدة وأتباعه، وخاصة بعد محاولة الانقلاب.
بالنسبة لأردوجان، بعد انتخابات يونيو ، أفسحت «تركيا القديمة» الطريق «لتركيا الجديدة». وفقا للنظام الجديد الذي تم تأسيسه بموجب هذه الجمهورية التركية الثانية، فإن أي تحد لسلطة أردوجان قد يُعتبر بمثابة خيانة.
يمدح أردوجان نفسه حين يسير كل شيء على ما يرام في البلاد ويلقي باللوم على قوى الظلام - المتآمرين الأجانب الغير معروفين - بسبب إخفاقاته. ويُعتبر تمجيده، وتظاهره بالنجاح، وبقاؤه السياسي في نهاية المطاف من أهم أهداف تركيا. كل هدف آخر، سواء كان نمو الإنتاجية، أو الاحتفاظ بالأصدقاء الأجانب، أو تحسين التعليم، أو شفاء الجروح الاجتماعية، يفسح المجال لتعزيز حكمه. ومقابل خدماته وتضحياته للأمة التركية، يحق له أن يكون فوق كل القوانين ويثري نفسه وشركاءه المقربين. إن منطق النظام السياسي الجديد في تركيا يعود إلى «دائرة العدالة» العثمانية التي قسمت السكان إلى أشخاص يدفعون الضرائب، ونخبة صغيرة معفاة من الضرائب يقودها سلطان كان تابعاً فقط للشريعة (القانون الإسلامي)، وإن كان نفسه يعرف ما يعنيه ذلك. تم إلغاء «دائرة العدالة» رسميًا في العام 1839، من خلال مرسوم أدى إلى عصر إعادة الهيكلة. بعد حوالي قرنين من الزمان، أعاد أردوجان تركيا إلى ماض حاولت أجيال من الإصلاحيين التخلي عنه.
لا يسمح النظام الذي أسسه أردوجان للسياسيين أو البيروقراطيين المختصين بتولي إدارة الاقتصاد. لقد تم رفضهم لأن أهدافهم تتخطى العديد من المصالح . وبسبب الخوف لا تجرى مناقشة صادقة للمشاكل. إن كبار رجال الأعمال والباحثين والصحفيين في مجالات تخصصهم صامتون من أجل الحماية الذاتية. وتتألف دائرة أردوجان من المؤيدين والمؤيدات، الذين يسعون جاهدين لإشباع إحساسه بالعظمة وبعلمه بكل شيء. حتى زعماء المعارضة في البرلمان التركي العاجز يدعمونه كلما أشار إلى أن ضعف الدعم سيعامل على أنه مساعدة للعدو.
وكما هو الحال في روسيا وفنزويلا، يُسمح بوجود بعض المنشقين الشجعان على هامش الخطاب العام من أجل إيجاد وهم حرية التعبير. لكنهم يعيشون حياة محفوفة بالمخاطر، فهم مهددون دائما بالاعتقالات، كإنذار للآخرين حتى لا يتجاوزوا الحدود المسموح بها.
عاجلاً أم آجلاً، سوف تجبر الضغوط الاقتصادية تركيا على تبني إصلاحات من شأنها أن تعمل على استقرار عملتها وأسواقها المالية. لكن هذه الإصلاحات لن تنعش الاستثمارات الخاصة الطويلة الأجل، ولن تعيد المواهب التي تغادر البلاد بأعداد كبيرة، ولن تخلق جوا من الحرية يسمح لتركيا بالازدهار. وكما أظهرت الصين ودول آسيوية أخرى، فإن بعض الأنظمة يمكن أن تزدهر عندما يعطي قادتها الأولوية لسياسات اقتصادية ناجعة. ولكن عندما يصبح الاقتصاد مجرد أداة أخرى لتعزيز السلطة ، فإن الاقتصاد، كما نشهد الآن، سيدفع ثمنا باهظا.

تيمور كوران: أستاذ علوم الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة ديوك

داني رودريك: أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة هارفارد