«قارئة الفنجان» بين حليم وسعاد حسني

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٧/أغسطس/٢٠١٨ ٠٣:٥٧ ص
«قارئة الفنجان» بين حليم وسعاد حسني

أحمد المرشد

أواصل اليوم حكايات المطربين مع الشعراء، وحديثنا اليوم عن إثنين من كبار المشاهير، العندليب عبد الحليم حافظ والشاعر الكبير نزار قباني، وهما ليس في حاجة إلى تعريف وإن كنا سنكشف كواليس أشهر أغنية لعبد الحليم والذي ختم بها عالمه وحياته وحبه وهي قصيدة «قارئة الفنجان» التي يضعها النقاد في المركز الأول لأغاني المطرب الذي هز قلوب العذارى في الوطن العربي وكانت كلمات أغانيه هي لغة الهمس بين العشق والمحبين، ولهذا عاش عبد الحليم بأغانيه وإن كان غاب بجسده ولكن ظلت روحه وقصصه.. قالت لي إحدى الزميلات في الوسط الصحفي المصري وهي شقيقة لإحدى صديقات عبد الحليم وكان سبب صداقتها هو خطيبها اللبناني آنذاك وتعرفت على عبد الحليم واقتربت منه بحكم صداقته لخطيبها، وعرفت منه كم هو إنسان راق وحساس لفنه وحبه، وقالت لي إنه مثلما كان معشوقا للفاتنات فكان أيضا عاشقا لهن، وكان يطربه ما يلقين الجميلات اللاتي يقابلهن على آذانه من غزل وحب فيه وأغانيه، ويطربه أكثر عندما يسمع منهن أغانيه كاملة، فكن يحفظن كل ما يغني عن ظهر قلب حتى أغانيه الوطنية.

نعود لقصة «قارئة الفنجان» فهي وفقا لأكثر من مصدر حكاية حقيقية مثلت لعبد الحليم ألما وجرحا غائرا رغم نجاحه الباهر في إلقائها في آخر حفل له في ربيع 1976 وإن كان بعض الجمهور الحاضر حول التشويش عليه مما تسبب في حزنه من تصرف القلة.. وقارئة الفنجان عادة معروفة حتى يومنا الراهن خاصة في مصر، وتجد كثيرا من النساء اللواتي يدّعين قدرتهن على قراءة ما يحويه الفنجان من طالع ومستقبل ويصدّقهن الكثير من المصريين، وبخلاف الفنجان توجد أيضا قراءة الودع أو «وشوشة الودع» وتقوم بهذه المهمة أيضا نسوة ينتمين إلى مجتمع الغجر وهم فئة قليلة في مصر. أما قارئة فنجان عبد الحليم فهي السودانية «مرجانة» التي صادفها يوماً وتنبأت له بنجاحه وشهرته إلى أن تقربت إليه وقرأت له فنجانه ذات يوم ولكن هذه المرة امتنعت عن الكلام خوفا على مشاعره، وعندما ألح عليها في الكلام وقراءة ما به أفصحت له عن رحلة مرضه الشديدة وموته وعدم الاقتران بحب عمره.

ورغم أن الحوار أحزنه للغاية إلا أنه أصر على سرد ما جاء بالفنجان لصديقه نزار قباني خلال إحدى زياراته للندن وطلب منه كتابة قصيدة بهذا المعني يحكي فيها قصة حبه الضائع، وكان نزار على علم بقصة حبه للفنانة سعاد حسني حيث يتردد أنه طلب منها الابتعاد عن عبد الحليم حتى لا تؤذيه باقترانه بها تجنبا لشرور أحد المسؤولين النافذين في ذاك الوقت، وفعلا قيل عقب واقعة انتحار سعاد حسني أن هذا المسؤول الكبير كان وراء مقتلها في لندن وليس كما قيل انتحاراً، عقب معرفته بفحوى مذكراتها التي أفضت بها إلى أحد الصحفيين ولم تكن تعلم أنه يتعامل مع الأجهزة الأمنية وقد أبلغهم فحوى مذكراتها.
غابت سعاد عن عبد الحليم ولكن الحب استمر ولم يستطع العندليب نسيانها للحظة، وكتب نزار القصيدة التي مرت ببعض المشكلات أدت في النهاية الى تغيير بضعة كلمات خشية أن يغضب هذا المسؤول الكبير، ليخرج الشاعر الكبير بكلمات غاية في الروعة تعبر تماما عما يجيش في قلب عبد الحليم.

لقد أبدع نزار قباني في مقدمة قارئة الفنجان ليبدأ جوا خياليا ليعيش في هذا العالم الساحر، وهو عالم التنجيم والعرافة الذي يقتحمه أي إنسان رغبة في معرفة الغيب والاطلاع على غده وما يكتبه له القدر من صراعات وخفايا، فعبد الحليم إنسان مثل كل البشر ويريد معرفة ما يخفيه مستقبله من مفاجآت..ونجد أن قارئة الفنجان في رواية وحبكة نزار قباني تتأمل الفنجان المقلوب وهو هنا يشير إلى واقع حقيقي، ثم يتركه إلى الخيال لتطالع الفنجان بريبة حيث استشعرت ما يخفيه طالع عبد الحليم بينما لم يكن صعباً عليه أن يقرأ القلق والخوف علي وجهها ليسألها أن تخبره بما تري، ولكنها رفضت في البداية وإن كانت حاولت لاحقا أن تخبره بطالعه مع التخفيف عنه من وطأة ما تجيش به مشاعره ولكنها أخبرته بألا يحزن لأن الحب سيلازمه طيلة حياته، رغم أن الموت حبا وعشقا هو مصيره المحتوم، وأنه سيكون له أجر الشهادة لأنه أحب وحافظ علي حبه فسيموت شهيدا.

ثم يتوالى الشاعر في سرد بقية الدراما والحبكة ليصور مزايا المرأة التي تقتحم حياة المطرب لترسم معالم كل حياته، فجمالها يفوق جمال كل النساء، فعيناها ساحرة تحمل كل معاني الجمال، أما عنها كامرأة فهي ساحرة وفمها مثل عناقيد العنب في حلاوته وطعمه وشفاها أشهى من العنب ذاته الذي يصنع منه أجود أنواع الخمور فما بالنا بروعة تلاقي الشفاه، ويستمر وصف المحبوبة الغائبة ليصل الشاعر إلى ضحكتها العذبة التي تشبه الموسيقي الهادئة في أجمل نغماتها عذوبة ورقة وكأن لنغماتها عبق ورائحة الورود التي لا تغيب عن بشر، أما شعرها فيسترسل علي كتفيها طويلا، منسدلا، منسابا في نعومة تزيد الرائي له رغبة في لمسه والشعور بنعومته، وإذا كان الشعر هو تاج المرأة فما بالنا بجمال امرأة يصل شعرها لكل الدنيا وفي هذا تشبيه على أنها كائن غير موجود في دنيانا.. غير أنه رغم هذا الجمال الذي يتدفق من المحبوبة ويزيدها رقة وعذوبة إلا أن طريق عبد الحليم إليها مفروش بالأهوال والمخاطر فقلبه يهواها وهي تمثل له حياته ودنيته ولكنها تجعل سماءه ممطرة وطريقه مسدود بلا نوافذ.

لقد أسهبت قارئة الفنجان في تعداد صعوبات الوصول إلى حبيبة القلب، فيبحث عنها في كل صوب وحدب بلا نتيجة حتى وإن بلغت به القوة ليعرف لغة البحار وأمواجه فلن يستدل على مكانها وسيمر به الحال ليقترب من كل شطآن الدنيا بلا أمل حتى وإن جاب بحار العالم بحرا بحرا، إلى أن تفيض الدموع أنهار ويتضخم الحزن في القلب والضلوع حتى يكون مثل الأشجار ليقف وحيدا في النهاية أو هكذا سيظل مهزوما مكسور الخاطر والقلب والوجدان ليعود وحيدا حتى نهاية العمر حيث يكتشف في نهاية أمره مع قرب رحيله عن عالمنا المحسوس أن حبيبة القلب مثل السراب أو خيط الدخان ليس لها مكانا سوى قلبه فهي بلا عنوان وسيعود في نهاية أمره مثل الملك المخلوع عن عرشه وصولجانه وحاشيته، فما أبدع من هذا من رحلة سراب وضياع الأمل، ولهذا خافت «مرجانة» في البداية البوح بتفاصيل ما تقرأه في الفنجان حتى لا تعذب عبد الحليم وتجعله يعيش حالة الوهم والسراب والحب الضائع، وهنا يصور نزار هذه الحالة كالآتي:» ستفتش عنها يا ولدي في كل مكانو ستسأل عنها موج البحر وستسأل فيروز الشطآن وتجوب بحاراً وبحارا.. وتفيض دموعك أنهارا وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارا وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان فحبيبة قلبك يا ولدي ليس لها أرض أو وطن أو عنوان ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان وترجعُ كالملكِ المخلوع».

في النهاية..لا نقول سوى أن «قارئة الفنجان» تمثل لوعة الحب حتى لو كان وهما أو ضائعا، فكانت مثالا رائعا لحالة مثالية من العشق والغرام والإبداع في تصوير هذه الحب الذي سيجعل صاحبه يبحث عن محبوبته في بقاع الدنيا وبحارها وشطآنها بلا أمل ليعود في النهاية متخليا عن حياته التي ضاعت فدى المحبوب ونعتبره في عداد الشهداء. إنها قصة عبد الحليم حافظ وسعاد حسني التي لم تكتمل كما كان يأمل العندليب.

كاتب ومحلل سياسي بحريني