مفترق الطريق في 2008

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٣/أغسطس/٢٠١٨ ٠٥:٠١ ص
مفترق الطريق في 2008

آدم توز

قبل عشر سنوات في نفس هذا الأسبوع، أوقفت المدفعيات الروسية مسيرتها التي دامت لبضع ساعات في تبيلسي، عاصمة جورجيا. وأسدلت تلك الحرب القصيرة في القوقاز الستار على سيطرة الغرب في أوروبا التي دامت لعقدين من الزمن بعد الحرب الباردة. وبتشجيع من إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، بادرت جورجيا محادثات حلف الناتو بشأن العضوية، وأجبرت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الدفاع عن الخط الأحمر الذي رسمه العام الفائت. وأعلنت روسيا على لسان بوتين في مؤتمر ميونيخ بشأن الأمن في فبراير من العام 2007، أنها ستعتبر أي انتشار جديد في أوروبا الشرقية للمؤسسات الغربية بمثابة عمل عدواني. وفي أغسطس 2008، تدخل الدبلوماسيون الأوروبيون بسرعة لوقف النزاع. إلا أنه في غضون أسابيع، لفتت بداية الأزمة المالية العالمية انتباه العالم. ففي واشنطن ولندن وباريس وبرلين وموسكو، كانت الحيلولة دون فشل البنوك أكبر مصدر للضغط وليس التصعيد العسكري. وفي الوهلة الأولى، لا تبدو هناك أية علاقة بين حرب جورجيا والأزمة المالية العالمية. لكنها كانت وسيلة لإخفاء التيارات الأكثر عمقا وراء هذه المواجهة.

إن دمج أوروبا بعد الفترة الشيوعية في الغرب ليست مجرد مسألة ثورة عادية. إن ما أسماه وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد، «أوروبا الجديدة»- أعضاء الناتو وأعضاء الاتحاد الأوروبي ما بعد الفترة الشيوعية- اعتمدت على استثمار مئات المليارات من الدولارات. فقد كان مصدر القروض نفس البنوك الأوروبية التي يرجع لها الفضل في الازدهار العقاري في أميركيا وتوسيع دائرة الإسكان التي كانت في الأصل كبيرة في المملكة المتحدة وإيرلندا وإسبانيا. وأكثر حالات التضخم العقاري شدة كانت في الفترة ما بين 2005 و2007 في الحدود الشرقية للناتو أي في البلطيق.

وبالإضافة إلى ضمان أمنها ضد روسيا، كانت الدول الأوربية تسعى إلى الرفاهية في الفترة ما بعد الشيوعية. إذ في بداية الألفية الثانية، كانت تخشى الجمهوريات السوفياتية سابقا مثل جورجيا وكرواتيا التي لم تمنح العضوية في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي أن تبقى في مؤخرة الركب. وأدت رغبتها في «اللحاق بالركب» إلى اندلاع ما يسمى بالثورات الملونة في عامي 2003 و2004، ليعبروا عن إيمانهم بأن النمو الاقتصادي والدمقرطة والتعاطف مع الغرب أمور مرتبطة ببعضها البعض.
ولكن ليست فقط الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي سابقا من استفاد من الازدهار العالمي الناتج عن الاقتراض. إذ لعبت سلطة و قوة نظام بوتين دورا في العولمة- وبالخصوص، الارتفاع المفاجئ في أسعار البترول. وفي العام 2008، بدى وكأن الشركة الضخمة للطاقة كازبروم التي تسيطر عليها روسيا، والتي استفادت من النمو غير المسبوق للطلب في الأسواق الناشئة بقيادة الصين، قد تصبح قريبا أكبر شركة في العالم.
وفي العام 2018، كانت جبهتين للرأسمالية العالمية تتجهان نحو بعضهما البعض عبر اورواسيا. وبينما كان الاستثمار الغربي يقود النمو الاقتصادي في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، شجع ازدهار الإنتاج نهوض روسيا الجيوسياسي. وبالطبع لم يكن ضروريا أن تؤد هذه العوامل إلى النزاع. فحسب عوائد العولمة، على الأقل، كل الأطراف تستفيد من التجارة
ويصر الاتحاد الأوروبي على براءة نموذجه المتعلق بالاندماج. فهدفه هو السلم والاستقرار وسيادة القانون وليس له مصالح جيوسياسية كما يدعي ممثلوه الرفيعي المستوى بصدق. وسواء آمنوا بذلك بالفعل أم لا، فالأعضاء الجدد للاتحاد الأوروبي الذين ينتمون إلى الفترة ما بعد الشيوعية لهم نظرة مختلفة للأمور. فبالنسبة لهم، يشكل حلف الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبي جزءا من الخطة العدائية ضد روسيا.، تماما كما كانوا أعداء لدول أوروبا الغربية في الخمسينيات من القرن العشرين.
وكلما حسنت ألمانيا علاقتها مع روسيا إلى أبعد مدى، ازداد التوتر. وردا على اتفاقية 2005 لبناء أنبوب غاز عبر التيار الشمالي، وصف راديك سيكورسكي الذي كان وزير خارجية بولندا آنذاك العملية على أنها نسخة جديدة للاتفاق الألماني السوفييتي لعام 1939.
ورغم أن أوكرانيا طلبت هي الأخرى العضوية في الناتو في العام 2008، لم يؤد ذلك إلى التدخل الروسي. لكن الحرب في جورجيا قسمت الطبقة السياسة الأوكرانية إلى ثلاثة تيارات، قسم يفضل الوقوف في صف الغرب، وآخر يدعم روسيا و فئة تفضل سياسة متوازنة. وما زاد الطين بلة هو تأثير الأزمة المالية الذي زاد من فتيلة التوتر. ولم يتأثر اقتصاد أي بلد في العالم جراء تلك الأزمة بقدر ما تأثرت المناطق التابعة للاتحاد السوفييتي سابقا. إذ عندما توقفت عملية الإقراض العالمي، كان المقترضون من الدول الضعيفة أول المتضررين، مما أدى إلى هبوط أسعار المنتوجات. لقد كان ذلك صدمة مدمرة «للدول التي تمر اقتصاداتها بمرحلة انتقالية».
ولكونها واحدة من اكبر الدول المصدرة للغاز في العالم، كانت روسيا من بين أكثر المتضررين. ولكن بعد المحنة الذي تعرضت لها روسيا جراء الأزمة المالية في أواخر تسعينيات القرن الفائت، لجأ بوتن إلى التسلح باحتياط مهم من الدولارات- الذي حل في المركز الثالث بعد الصين واليابان. ومكن احتياط 600 بليون دولار روسيا من تتجاوز أزمة 2008 دون مساعدة خارجية.
ولكن الأمر نفسه ليس صحيحا بالنسبة للدول التي كانت تابعة لروسيا سابقا. إذ انخفضت قيمة عملاتهم وارتفعت معدلات الفوائد بشكل صاروخي. كما توقف تدفق الرأسمال الأجنبي. وقد لجأ بعضهم إلى صندوق النقد الدولي من أجل المساعدة.
وفي الواقع، أدت أزمة العام 2008 إلى انقسامات في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية. وتمكنت القيادة السياسية في البلطيق من تجاوز الأزمة من خلال قبولها سياسة التقشف للاستمرار في طريقها نحو العضوية في اليورو. أما في هنغاريا، فقد فقدت الأحزاب الحاكمة المصداقية، مما فتح الباب للنظام الليبرالي لنائب الوزير فيكتور أوربان.
إلا أنه لا توجد هناك دولة في المنطقة أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية أو أكثر ضعفا من الناحية السياسية أو أكثر تضرراً على المستوى الاقتصادي من أوكرانيا. ففي غضون أسابيع، واجهت أوكرانيا كارثتين في نفس الوقت الحرب في جورجيا والأزمة المالية.
في العام 1989، أظهرت نهاية الحرب الباردة أن النمو الاقتصادي الذي تقوده الأسواق كانت قوة جامحة أدت إلى وصول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القمة. لقد كانت خطوة صغيرة نحو افتراض أن تمدد الرأسمالية إلى العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيستمر بنقل موازين القوة لصالح الغرب. إن أحداث شهر أغسطس وسبتمبر من العام 2008 لقنتنا درسين مؤلمين ومقلقين جدا. أولا، الرأسمالية معرضة للكوارث. ثانيا، لم يشجع النمو العالمي بالضرورة الاحتياط العالمي. ويشجع النمو العالمي الشامل تعددية الأقطاب، التي، في غياب تسوية ديبلوماسية وجيوسياسية فعالة، تصبع سببا في النزاع.
لقد مرت عشر سنوات، والغرب لا زال يحاول بجهد إنهاء هذه الأمور التي تسبب له قلقا بالغا. وتوجه الأنظار اليوم إلى آسيا، وصعود الصين وتأثيرها المتزايد عبر اورواسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لكن روسيا ما زالت هي محور الاهتمام. لذا لا يجب علينا أن ننسى أزمة جورجيا في 2008، عندما تبين لأول مرة بوضوح إلى أي مدى قد تصل خطورة سيطرة الاقتصاد العالمي.

أستاذ لمادة التاريخ في جامعة كولومبيا، هو مؤلف الطوفان: الحرب الكبرى، أمريكا وإعادة وضع النظام العالمي، 1916-1931