إلى متى..؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٣/أغسطس/٢٠١٨ ٠٤:٤٢ ص
إلى متى..؟

سمعان كرم

اعتدت منذ سنين أن أمشي يومياً في مدينة السلطان قابوس في السبعينات من أجل المحافظة على الرشاقة واستقطاب الأنظار، فكنت أقطع مسافة عشرة كيلومترات ركضاً عند العصر أو في الصباح بعد الفجر. ومع الزمان وزيادة الوزن والتقدم بالعمر حافظت على العادة الحميدة تلك لكن اختصرت المسافة إلى النصف وكذلك السرعة. ولم أعد أركض بل أمشي. مما جعلني أنقل ساعة التمرين إلى الرابعة والنصف صباحاً تحاشياً للأنظار. واليوم أصبحت أعرف مساري خطوة خطوة حتى في ظلام الليل. أعرف أن هنا حفرة في الرصيف وهناك إشارة سير قابعة في منتصفه فأتحاشاها، وبعد الدوار الصغير هناك الماء المتسرب من محابيس قديمة فأخفف سرعتي خوفاً من الانزلاق، والمنزل الذي ينبح من وراء بابه كلب متعجرف، وسيارات أوقفها أصحابها على عرض الرصيف فأغير مساري احتراماً لها هي التي لم تحترم المشاة بل اعتدت على حقوقهم وأقبض أنفاسي عند مروري قرب سلات النفايات.
رافقت البيوت التي هُدّمت وقامت مكانها أربع شقق. يا ترى من بنى تلك الشقق؟ الذين بنوها هم أول من أصادف على طريقي حتى قبل أن أرى المصلين يخرجون من المسجد.
منهم من ينام على الموقع وأحد يطبخ الشاي على نارٍ من حطب وآخر يغتسل وهو نصف عارٍ وثالث ينظف أسنانه لساعات وساعات، وآخر يتكلم على هاتفه الجوال مع عائلته التي تركها في بلاده حيث الشمس عندهم تسبق شمسنا على الشروق. ومنهم من يأتي بهم مراقبهم إلى الموقع في سيارة خاصة تخرج منها أفواج من العاملين رغم صغر سعتها. يوزع عليهم أكواب الشاي -الكرك ويسلمهم إناءات مياه الشرب ممتلئة ومثقلة ثم يعطيهم تعليمات العمل ويهرب بعيداً عنهم في حال أتى أحد المفتشين. وكلنا يعلم أنهم لن يأتوا لأسبابٍ عديدة.
أَقرأ على لوحة المشروع رقم القطعة ورقم الرخصة واسم المالك أحياناً وحتى اسم المقاول. لكن من هو ذلك المقاول؟ أهو من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أم هو شابٌ طموحٌ سجل له مؤسسةً وراح ينميها فتُعيله وتؤمّن مستقبله. كلنا يعرف أن هذا حلمٌ جميلٌ بعيدٌ عن الحقيقة المُرَّة. الأرجح أن صاحب المؤسسة الحقيقي هو وافدٌ يعمل تحت ستار عماني، فسمّي نشاطه بالتجارة المستترة في الوقت الذي هي مكشوفة ومعلومة من الجميع، حتى المسؤولون عن تنظيم سوق العمل في القطاع الخاص والقطاع العام. وحيث إن مشواري اليومي يستغرق ساعة تقريباً أجد نفسي بمتسع من الوقت لأجيب على أسئلة عديدة تخطر ببالي. ماهو وضع هذا العامل المسكين الذي ألتقي به كل صباح والذي يعمل من الفجر إلى الليل إما لبناء منزل أو قطع طرق يأن جسدها وجسده بعد كل ضربة من معوله؟
لقد قامت شركة مشغلة لحقول النفط -تعمل مجموعتنا على امتيازاتها- بحملة سرية للاستطلاع والاستفسار من العمال الآسيويين الذين يعملون لدينا، عن طريق طرفٍ ثالثٍ، كي لا يثيروا أي قلقٍ أو ريب قد تشوّه نتيجة الاستفتاء. علمنا لاحقاً أنهم سألوهم إذا كانوا يستلمون معاشاتهم كاملة في الوقت المحدد الذي يتم إيداعها في المصارف، وعن نوعية الأكل والمنامة والعناية الصحية وغيرها من الأمور المطلوبة للعمل اللائق. لكن الأهم سألوهم إن كانوا دفعوا أية مبالغ في بلدهم لوسطاء سهّلوا لهم السفر إلى السلطنة. لم نكن نعلم أبداً بتلك الحملة أو نتائجها إلى أن دعتنا الإدارة العليا للشركة المشغلة لاجتماع طارئ على أعلى المستويات. بصورة عامة أثنوا على عملنا لكن أبلغونا أن هناك خرقاً لحقوق العمال يدرج تحت بند الاتجار بالبشر. صعقت للخبر وطلبت تفسيراً لادعائهم.
قالوا لنا إن أغلبية عمالنا دفعوا أموالاً في بلادهم لوسطاء كي يحصلوا على الوظيفة، وأنه يتوجب علينا أن نعيد لهم تلك الأموال لأن الشركة المشغلة لا تقبل أحداً يعمل عندها مباشرة أو عند مقاوليها ويكون قد حصل على وظيفته بالرشوة والابتزاز.
تهتم الشركات الكبيرة بسمعتها وليس محبةً بالعمال.اعترضنا لعدم معرفتنا المسبقة بهذا الأمر وبأنه على كل حال لا يمكننا التحقق أو التحكم في ممارسات ذلك البلد الذي لا يحمي مواطنيه من استغلال بعضهم للضعفاء. خسرنا كل الحجج ودفعنا تعويضات للعمال تحت تهديد فسخ عقدنا مع الشركة المشغلة، لكن أدخلنا نظام مراقبة مشددة لمعالجة هذا الموضوع من منبعه ونحن واثقون من أننا لن نفلح تماماً إذ إن عصابات الاتجار بالبشر هناك سيجدون طريقة كي يصمت العامل المسكين ولا يعترف بالحقيقة.
إذن، أنا متأكد من أن صاحبي العامل المسكين الذي أراه كل يوم هو أيضاً قد دفع مبالغ باهظة للمجيء إلى السلطنة. وعندما يصل إلى عمان عليه أن يتحمل تذكرة السفر وكلفة بطاقة العمل والإقامة، وعليه أن يجد مكاناً للمنامة والأكل على حسابه إلى أن تأتي فرصة العمل. أي أنه يكون قد التزم بمدخوله لمدة سنة تقريباً قبل أن يحصل على أي معاش أو مدخول ناهيك عن المبلغ الشهري الذي عليه أن يسلمه لكفيله.
وتقع الكارثة إذا ما ضُبط وهو يعمل عند غير كفيله في حملات مداهمات عنيفة لمقر الشركات والمؤسسات بحثاً عنه. عندها تغرَّم الشركة ألف ريالٍ وتذكرة طائرة لإعادته إلى بلاده.
ويخرج الكفيل بريئاً من كل ذلك علماً أنه هو أصلاً سبب المشكلة. وإذا ما عاد قسراً صاحبي إلى بلاده تنهشه ضباع الاتجار وهو منهك تحت عبء الديون.
منذ سنوات قلائل نشرت السفارة الهندية على صفحات الصحف المحلية وعلى طلب من مواطن لها- وهذا حقه على ما يبدو- معلومة عن عدد وفيات رعاياها المقيمين في السلطنة والذين يتجاوز عددهم الـ600 ألف. حوالي ثمانون توفوا بحوادث عمل أو سير، وحوالي ثلاثة آلاف ماتوا موتاً طبيعياً أو مَرَضياً وحوالي ثمانين انتحروا. أرجو ألّا يكون صديقي من الفئة الأخيرة. إلى متى ستظل مسألة التجارة المستترة علماً أنها مكشوفة ومسألة العمال المشرَّدين مستعصية علينا وسمعة بلدنا على المحك؟!