سياسات الهوية الليبرالية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٩/أغسطس/٢٠١٨ ٠٤:٠١ ص
سياسات الهوية الليبرالية

أندريس فيلاسكو

في أيامنا هذه، إذا تلفظ المرء بعبارة "سياسات الهوية"، فإنه بذلك يجازف بإشعال شرارة مشاجرة أو نزاع. على اليسار الأمريكي، تكاد تكون كل السياسة سياسات هوية. وهذا يُفقِد اليمين الأمريكي صوابه. وليس اليمين فقط: فهناك أيضا المفكرون الليبراليون، مثل مارك ليلا من جامعة كولومبيا، الذين يسوقون حجة مقنعة بشكل متزايد ومفادها أن سياسات الهوية تشكل سياسة انتخابية رديئة. وهم يزعمون أن الحزب الديمقراطي الضعيف، الذي لا يزيد إلا قليلا عن كونه مزيجا من مجموعات لا حصر لها تقوم على الهوية، ربما يتحمل المسؤولية عن انتخاب دونالد ترامب في العام 2016.
المشكلة هنا أن بعض المنتقدين الأمريكيين لسياسات الهوية يفترضون أن هناك ما يمكن اعتباره سياسة أقل التصاقا بالهوية. لكن نظرة سريعة حول العالَم تشير إلى العكس تماما: فالقاسم المشترك الذي يجمع بين أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، والقوميين الروس، والأصوليين الإسلاميين هو أن سياساتهم جميعا تدور حول الهوية. وإلى أي شيء قد نعزو ردة الفعل العنيفة الهائلة ضد الهجرة إن لم يكن التأكيد على هوية فوق هوية أخرى؟ وكلما كان الاقتصاد أكثر خضوعا للعولمة، كلما أصبحت السياسة في مختلف أنحاء العالَم مدفوعة بهويات محلية للغاية.
ولكن لماذا يقلقنا هذا؟ وماذا يمكننا أن نفعل حياله؟
لنبدأ هنا بالواضح: ليست كل أشكال سياسات الهوية ضارة أو مؤذية. عندما يربط الناخب نفسه بأحد المرشحين، في عصر يتسم عموما بانعدام الثقة في الساسة، فهو أمر يستحق الاحتفال حقا. فمن خلال الألفة (والتشابه) يمكن توليد الثقة بدلا من الاحتقار. وربما تكون ناخبة أنثى أكثر ميلا إلى ربط نفسها بمرشحة أنثى. وينطبق نفس القول على أعضاء الأقليات العِرقية والدينية.
وبدورهم، يميل الساسة إلى تلبية مصالح المواطنين الذين يتقاسمون معهم هويتهم. ولولا مارتن لوثر كنج الابن، وغيره من القادة الملهمين من الأمريكيين الذين ينتمون إلى أصول أفريقية، فربما ما كنا لنشهد ظهور حركة الحقوق المدنية. وقد أظهر راغابندرا تشاتوبادياي من المعهد الهندي للإدارة وإستير دوفلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن احتياجات النساء في الهند تحظى بقدر أكبر من الاهتمام عندما يختار الناخبون نساء لشغل مناصب سياسية. وقد وجدت روهيني باندي من جامعة هارفارد تأثيرا مماثلا عندما يصل أفراد من الطوائف المحرومة إلى مناصب سياسية.
وعلى هذا فإن الهوية ربما تعمل على تحسين القدرة التمثيلية للديمقراطية التمثيلية. وفي وقت حيث يفتقر الساسة إلى المصداقية، يصبح بوسع المرشحين من ذوي الهوية القوية أن يبذلوا وعودا أكثر مصداقية. ويُعَد هذا أحد الجوانب الطيبة في سياسات الهوية.
لكن الأمر لا يخلو من جانب سيئ ــ عِدة جوانب سيئة في حقيقة الأمر. الجانب الأكثر وضوحا هو أن النظام السياسي المدفوع بهويات مختلفة من الممكن أن يصبح مفتتا بسهولة. وعندما تكون هذه الهويات مختلفة تماما في قيمها، أو تفضيلاتها، أو مصالحها، تزداد احتمالات التشظي والاستقطاب قوة. لا شك أن حِس الهوية عند الكاثوليك والبروتوستانت في أيرلندا الشمالية، أو الهوتو والتوتسي في رواندا، كان قويا للغاية؛ وكان ذلك جزءا من المشكلة وليس الحل.
هناك أيضا خطر حلول سياسات الهوية محل سياسات العدالة الاقتصادية أو إضعافها بشدة. إن العديد من المظالم اقتصادية أو ترتبط بالهوية. وليس من قبيل المصادفة أن يكون السكان المنحدرون من أصول أفريقية في الولايات المتحدة، أو السكان الأصليون في أمريكا اللاتينية، بين أفقر الفقراء.
ومع ذلك، لا يستند التمييز في بعض الأحيان إلى الهوية، بل يكون طبقيا (لم يكن كارل ماركس مخطئا تماما). وفي حالات أخرى، لا يميز الفشل الاقتصادي. فقد يتسبب النمو الاقتصادي البطيء في خفض دخول الجميع. وتتسبب الانهيارات التي تعقب الفقاعات المالية في زيادة معدلات الباحثين عن عمل والمعاناة بين السكان من جميع الأعراق والأجناس. وإذا جعلنا التركيز على الهوية نتغافل عن العامل الاقتصادي، فسوف نعاني جميعا.
تتلخص مشكلة أخرى، كما زعم ريكاردو هوسمان، في أن المعرفة اللازمة لدفع الاقتصاد الحديث إلى النمو متأصلة في البشر وليس الكتب الأكاديمية. وإذا دفعت الناس بعيدا لأنهم لا يشاركونك هويتك، فمن المؤكد أن الازدهار الاقتصادي سيعاني.
هذا هو ما أنجزته النزعة الشافيزية في فنزويلا: فمع فصل أو نفي المهندسين الذين أداروا شركة النفط الوطنية، انهار إنتاج النفط، مما أدى إلى انهيار اقتصاد فنزويلا بالكامل. والدرس ليس جديدا: فقد فعل روبرت موجابي شيئا مماثلا في زيمبابوي، وكانت النتائج كارثية على نحو مماثل.
يكمن الخطر الأعظم في استغلال الهوية لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما يفعله الشعبويون على وجه التحديد. الواقع أن لا الهويات ولا القواعد السلوكية التي تنطوي عليها ثابتة. فقد يكون المرء وطنيا محبا لوطنه دون أن يبغض مواطني الدولة المجاورة.
غير أن التاريخ عامر رغم ذلك بأمثلة لقادة يتمتعون بكاريزما قوية عملوا على تأجيج نيران الشوفينية السامة. فلم يتورع الرئيس البوليفي إيفو موراليس كلما واجه متاعب سياسية في الداخل عن إطلاق تصريحات معادية لشيلي. ويبدو أن ذلك النهج كان مثمرا: فقد ظل في السلطة طوال 12 عاما، وتؤكد التقارير أنه سيبدأ فترة ولاية رابعة في العام 2019.
الواقع أن الساسة من أمثال نلسون مانديلا وباراك أوباما يستحقون الإعجاب لأنهم يمارسون سياسات الشمولية. وتحت الخيام الضخمة التي أقاموها، يستطيع أي شخص ــ أسود أو أبيض، غني أو فقير ــ أن يجد لنفسه حيزا ومكانا. ومع ذلك، يبدو أن ممارسي الخطاب المثير للانقسام سياسيا أصبحت يدهم هي العليا: فتعد أمور مثل جدار دونالد ترامب الحدودي وحدود فيكتور أوربان المغلقة من أكبر عناصر البرامج الانتخابية قدرة على اجتذاب أصوات الناخبين.
ما يدعو إلى التفاؤل أن مثل هذه الأمور ليست الوحيدة الأكثر قدرة على اجتذاب الأصوات. فالديمقراطيون الليبراليون يؤمنون بالصالح العام لمواطنين يتمتعون بحقوق متساوية. ويتمثل التحدي في بناء هوية مشتركة حول قيم ليبرالية، وإظهار الفخر ببلادنا لأنها على وجه التحديد تجسد هذه القيم. وهذا هو ما يمارسه رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باقتدار شديد.
يساعدنا مثل هذا الحس المشترك الأوسع ليس فقط على المستوى الانتخابي، بل وأيضا على الصعيد الاقتصادي. فالمجتمعات المفتوحة تثقف الناس أو تجتذبهم بالاستعانة بأشكال متنوعة وقيمة من المعرفة، وهي تزدهر بهذه الطريقة. فالتعددية هي الحل لمشكلة هوسمان. وليس من قبيل المصادفة أن تحظى المدن المتسامحة التي تتمتع بقدر كبير من التنوع مثل سان فرانسيسكو ونيويورك ببعض من أعلى الدخول في أي مكان.
هناك إذن ما يمكننا أن نعتبره سياسات هوية ليبرالية. وهي قد تكون شديدة الفعالية. والآن حان الوقت لكي يبادر المزيد من القادة إلى البدء في ممارستها.

وزير المالية ومرشح سابق للرئاسة في شيلي