أين كنا.. وأين أصبحنا..

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٨/أغسطس/٢٠١٨ ٠٣:٣٦ ص
أين كنا.. وأين أصبحنا..

لميس ضيف
lameesdhaif@gmail.com

عانيت طيلة حياتي من أكلاف سذاجتي؛ إذ منحت ثقتي -غير ذي مرة- لمَن لا يستحقها مفترضةً فيهم الصلاح حتى يثبت العكس، رغم أن الحنكة تقول إن الثقة يجب ألا تُعطى بل تُكتسب وإن الحذر من حسن الفطن.

يظهر هذا الضعف بشكل خاص أمام مَن يُظهرون التقوى. إذ أستسلم بسهولة لفكرة “موثوقية” مَن يُظهر بعضاً من علامات التديّن. ولم يسمح لي عقلي الثاوي يوما في التشكيك بمَن يحمل مصحفا أو كتاب أدعية، أو يقتبس من آيات الذكر الحكيم ليزخرف بها حديثه. وتتسارع معاول الثقة في دكّ أسوار شكي، ويسهل انتزاع ثقتي إن وجدت مَن يظهر بعض علامات الزهد في المتاع الدنيوي، مقترنةً بالورع.

لهذا السبب تحديدا، فإن أغلب المرّات التي تعرّضت فيها للنصب والاحتيال، جاءت على يد هؤلاء، ومِن “مآثري” أن وظّفت شخصا لأنه تأخر عن موعد المقابلة الشخصية للتوظيف لأنه اتّخذ من الصلاة ذريعة لذلك، لأكتشف بعدها أنه شخصٌ لا يُقيم لواجبات عمله وزنا، بيد أنه مبدع في اختراع الأعذار!
عشرات القضايا التي هزّت الشارع العربي، وأفرغت جيوب آلاف المطحونين، ادّعى أبطالها التديّن ليستغفلوا بذلك الناس، من أشهرها قضية الذهبي، رجل الأعمال التقي، الذي فرّ بعشرات الملايين خارج مصر بعد أن بنى مساكن لذوي الدخل المتوسط واتّضح فيما بعد أنه باع كل شقة منها على أكثر من شخص!
وقد خلّد الفنان عادل أمام مشهد استغلال الدين لاستغفال البسطاء في فيلم عُرض في العام 1986 يظهر فيه الزوجان وقد سلّما مالهما لمستثمر دون ضمانات كافية لأنه “مؤمن” يمشي بين موظفيه مُسبِّحا وقد أعطاهما كيس “بلح” لمباركة الصفقة. فلما فرّ بمالهما أخذ البطل يتأمل التمرات، ويتغنّى بها، إذ كلّفته “تحويشة” عمره.
ولسنا وحدنا على ما يبدو مَن ننزلق لهذا الفخ؛ فقد نشرت مؤخرا قضية ديفيد شفيلي، وهو رجل دين يهودي من أصل روسي، استطاع أن يُوقِع عددا غفيرا من الأثرياء في شباكه ويجني من ذلك الملايين، أغلب ضحاياه من الأثرياء اليهود وبعضهم كما قيل، آسيويون وعرب، واللافت أن المحكمة نفسها عجزت عن بلورة لائحة اتهام ضده؛ فصاحبنا لم يُجبر أحدا على منحه المال، ولكنه استغل المعلومات الشخصية التي تعرفها صديقته الأرملة، زوجة أحد أكبر رجال الأعمال، ليُوهم الأثرياء أن لديه قدرات خارقة على معرفة ماضيهم وحاضرهم -ومستقبلهم بالتالي، وهو يكتب الحُجب ويأتي بالحظ ويحل المشاكل المستعصية. وقد يظن البعض أن قدرة تلك الطبقة على اكتشاف النصابين تفوق تلك التي يملكها العامة ولكن قضية رجل الدين شفيلي تثبت العكس!
إننا نثق بصدق الأديان وعدالة الشرائع السماوية وطهارتها من كل عيب، وهذا هو ما يجعلنا نفترض أن كل من يتمظهر بمظهر ديني هو مرآة لتلك الشرائع وسموها، وهو ما فطنت له تلك الفئة البغيضة التي استغلت نقاء الدين بدناءة للاسترزاق من براءة الناس، ولكن أقنعتهم تنكشف تباعا، ووعي الناس بات يعمق وبات كثير منهم عصيا على حيل هؤلاء، جعلنا الله وإياكم منهم.