علي بن راشد المطاعني
لم نكتفِ بنشر الإشاعات على اختلافها في مواقع وحسابات التواصل الاجتماعي، وما يشوبها من ممارسات خاطئة كسلوكيات لم نعهدها من قبل في قيمنا العمانية الأصيلة بهذا المستوى الهابط في التعاطي بين الأفراد، كالسابقين الأوائل الذين تسلحوا بالقيم الإسلامية السمحة من كتاب الله وسنة نبيه -صاحب الخلق العظيم- ونهلوا من المناهج التربوية التعليمية ما يعينهم على حسن التخاطب وسلاسة الحديث، ومن الأعراف المجتمعية التي تحثُّ على التمسك بآداب الحديث وسلامة اللفظ؛ ما يؤسس لنهجٍ صافي المنبع وزكي النفس والروح ينبغي أن نتبعه في تعاملاتنا العلمية والمدنية.
وانتقلنا بشكلٍ مقزز وبغيض إلى تصفية الحسابات الإدارية والمالية وعلاقات الموظفين عبر الأثير وعلى مرأى ومسمع الجميع، فمن المؤسف جداً أن نشهد تلاسنات بين الزملاء الموظفين على اختلاف مستوياتهم؛ كانوا بالأمس في مقاعد واحدة يقودون العمل في هذه الجهة أو تلك، واليوم أصبحوا أعداءً على شبكات التواصل الاجتماعي بمشاحنات ليس مكانها العالم الافتراضي، في صورةٍ غير حضارية لا تليق بمكانة الجامعات ولا أساتذتها، كان الأجدى مهما بلغ الخلاف أشده، أن يظل في نطاقه المؤسساتي، وأن لا يخرج خارج حرم الجامعة، كالذي يحدث الآن من اجتذاب كل طرفٍ فريقا يسانده فيما مضى فيه، ويجر معه الجيوش المستعدة لخوض الغمار بلا هدى، لتتحول القضية الشخصية إلى رأيٍ عام، ويصبح الأشقاء في ساحات العلم والأدب يتقاذفون التهم على خلاف ما كنا نرجوه من سموٍ في التعاطي في مثل هذه المواقف وغيرها، وبدلاً من أن نغرس سجايا الأخلاق الحميدة بين العاملين بها ليرضعوا هذه المثل وتلك القيم لطلابهم والمجتمع كله، أصبحوا نموذجا في التراشق التويتري العجيب.
كنا نأمل من أصحاب القامات العلمية أن يبقوا على لِين العلاقات العملية والمجتمعية والإنسانية كبقاء شعرة معاوية بينهم مهما بلغ الخلاف والشقاق على أمور دنيوية، بيد أنه على ما يبدو فإن جدران العلم والأدب تصدعت وأصابها داء «السوشل ميديا» المتفشي في الضغط والتشهير إلى غير ذلك من مآرب، تجعل البعض يصاب بداء العظمة في التعاطي مع الآخرين.
فالعلاقات العملية بين الجهة والعاملين بها مهما بلغت حدة التعاطي والتأزم بينهما، لا يجب أن تمتد مشاكلها وقضاياها إلى شبكات التواصل الاجتماعي بقصد المطالبات المادية والإدارية، على اعتبار أن هناك قنوات أخرى يمكن أن تسلكها في ذلك، فالطرق كلها ممهدة إلى سبيل استعادة الحقوق ورد الاعتبارات في دولة المؤسسات والقانون، وفيها ما يكفي من جهات يمكن أن نسترد من خلالها حقوقنا ومطالباتنا مهما بلغت، وهذا ما يجب أن نعلمه لأبنائنا وطلابنا، وليس اللجوء إلى شبكات افتراضية لنشر غسيلنا فيها، ولنعري أنفسنا ومؤسساتنا التي كانت وستظل الحاضنة لنا والمستوعبة لطاقاتنا والمنصة التي انطلقنا منها إلى فضاءات العالم بعوالمه الكبيرة وعرفنا وتعرف الآخرون علينا من خلالها.
فاليوم بتأخر رواتب أو نقصٍ في أي من الجوانب الإدارية والمالية وغيرها في جهة أو شركة نهرع مباشرةً إلى وسائل التواصل الاجتماعي لحل الخلافات وتسوية الإشكاليات والضغط على المؤسسات، فأي حكمة أو حنكة في ذلك؟ وأي منطق يمكن الاستناد عليه في هذا السلوك وتلك الممارسة؟
فهذه الجوانب الإدارية والمالية وعلاقات العمل لا تكون على نحوٍ مثالي دائماً حتى في أعرق المؤسسات وأكبرها على الإطلاق، ليس في السلطنة وحسب وإنما في العالم بأسره، كلها تعاني وفيها من الأخطاء والنقص ما يكفي، لكن لا يلجأ العاملون فيها إلى التراشق والتلاسن في منصات التواصل وأمام الملأ وسلخها وكشف ما تعانيه، فالبيوت أسرار مغلقة؛ لا ينبغي أن تعرّى هكذا، مهما كانت الوقائع مؤلمة وتأثيراتها بالغة، فالحلول ليس بالخروج إلى هذه الساحات الافتراضية التي تمكن الغث والسمين من استخدامها، ولا ينبغي أن تتجاوز القضايا الشخصية حدودها الضيقة، ليدلي كل متابعٍ بدلوه في مسائل لا يدرك تفاصيلها ولا كنهها ولا الظروف المحيطة بها.
ويبقى السؤال المؤلم: هل ترتضي جهاتنا الرسمية والأكاديمية أن تصل لتلك المستويات من المطالبات من عاملين فيها جراء تأخر الرواتب أو غير ذلك من مشكلات؟ أليس منطقياً أن تسن قوانين تؤطرها لوائح تنظيمية مشرّعة، تحد من هذا العبث وإخراج قضاياها ومشاكلها للعلن؟ أليس حرياً أن تأخذ الأمور مسارها المعتاد، وأن تسلك كل مشكلةٍ مسارها القانوني عبر قنواتها السليمة إن تفاقم الأمر أو لم تجد حلاً؟
لكل شيءٍ حرمة، والعلاقة بين الموظف ومؤسسته لها حرمتها التي يجب ألا تنتهك بالنشر العلني، وما حدث يعد سابقة لحالات مشابهة إن لم تفطن الجهات الرقابية والرسمية لها، ما يَعِدُ بمستقبلٍ قابلٍ بالتراشق العلني بعشرات التهم، حينها سيتحول الأمر إلى فوضى يصعب وقفها.
نحن اليوم أمام إشكالية كبيرة على المُشرّع أن يتصدى لها بدعوى المساس بهيبة المؤسسات وقدسية الجهات الأكاديمية وغيرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لأمور قد تكون غير صحيحة بينها والعاملين فيها، أو كما أسلفنا لها طرقها للحل، فلا حرج أن تصل القضايا إلى ردهات العدالة بكل مراحل التقاضي بين الجهة والموظف في ظل توافر القوانين والتشريعات، عندها يأخذ كل ذي حق حقه بالطرق المشروعة، تكون الغلبة فيها للقانون لا سواه، ولا غضاضة في التحاكم بين مؤسسة وموظفيها، ومن اللائق أن لا يظهر للعلن، حفاظاً لشرف العمل وخصوصية المكان.
بل آن الأوان لنؤسس لثقافةٍ مجتمعية، تدين هذه الممارسات الخاطئة كسلوكٍ مجتمعي دخيل، نرفضه ولا نتقبله، وأن يسنَّ له قانون يُحاسب كل من يقترف ذلك الجرم، كنوعٍ من الردع وجزءاً من تحمل المسؤولية لكل طرف عما يجنيه على نفسه وجهته ومجتمعه.
كنتُ أتمنى من الجانب الآخر التزام الصمت في عدم الرد على كل ما يرد في شبكات التواصل، وعدم النزول لمستوىً أقل في التعاطي يُسيء للجهات والمؤسسات، فإذا كان الطرف الأول أخطأ التقدير، كان لزاماً علينا أن لا نسلك ذات الخطأ، بل علينا أن نؤسس لثقافة المسؤولية الأخلاقية في التناول، وعلى المؤسسات أن تبقي أبوابها مشرعة وأن نطرق قنواتها بالوسائل القانونية الراقية، لا أن نجيّش العواطف ونربت على الأكتاف، ولا يجب اتباع طرق التراضي اللينة في كل شيء، فهذه الممارسات لا تبني دولاً ولا تنهض بشعوبها.
ما ينكأ الجراح، أنَّ من كنَّا نظنهم حملة فوانيس المعرفة والتنوير، وأصحاب الثقافة العالية بما يمتلكون من رقي ورهافة حس، والأكثر محافظة على إبقاء مساحات الود عامرةً بينهم وبين مؤسساتهم ، أصبحوا اليوم مناوشين لأبسط الأمور واقلها على الإطلاق، فما ضير أستاذٍ جامعي له مكانته العلمية أن يبعث برسالةٍ على «الواتس أب» لرئيس الجامعة يطلب فيها راتبه؟ إن كان يعوزه كتابة رسالة ورقية أو رفع سماعة الهاتف، فمن المؤكد أن ساحة «تويتر» لن تقوم بتحويل الراتب إلى حسابه، وإن كان يريد بذلك تقديم ورقة ضغط على الجامعة، فكنّا نراه أسمى وأنبل من ذلك وإذا لم تتعاطى الجامعة فكما أسلفنا العدالة مشرعة فاتحة أبوابها على مصراعيها لكل ذي حق، فلماذا لا نسلك هذه الطرق خاصة وأننا في دولة مؤسسات وقانون ويجب أن نستفيد مما يتوفر من مكاسب في تحصيل الحقوق.
نأمل أن نترفع عن هكذا ممارسات بيننا وبين مؤسساتنا ونلتزم بقيمنا التي نزرعها في خطابتنا ومحاضراتنا ونستلهم منها ما يعنينا على إدارة حوارنا مع بعضنا البعض، قبل أن نوجه طلابنا بأن يسلكوها، فأي علم أو أدب يمكن أن نقدمه للأجيال أو يصدقوا ما نفيض به، إذا كنا نزلنا بالحوار إلى هذا المستوى في التراشق بخروجه من تعاملاتنا الطبيعية إلى معتركات العلانية الفضائية، على أنني بتَّ أشعر أننا بحاجةٍ ماسة إلى زرع ثقافة الذوق العام في محيطنا، فعلى ما يبدو أننا نفتقد إليها وبشدة وإيجاد أطر تحكم العلاقة بين الموظف ومؤسسته تحد من اللجوء إلى التشهير وخلق فوضى بالعبث في وسائل التواصل الاجتماعي.