قـرية «العين» جنّة معلّقة على قمة جبل

مزاج الخميس ٠٢/أغسطس/٢٠١٨ ٠٤:٣٣ ص
قـرية «العين» 


جنّة معلّقة على قمة جبل

الجبل الأخضر - أسد بن حارث الزكواني

تربض قرية العين على كتلة صخور الترافتين في نيابة الجبل الأخضر، والتي كانت معروفة بغزارة المياه فيها منذ العصور القديمة ومن هنا أخذت القرية اسمها «العين» لدالة.

تحد القرية من جهة الشرق قرية العقر ومن الغرب قرية الشريجة والجنوب قرية القشع، استوطنها بنو ريام منذ القدم لتوافر الماء فيها بغزارة ويقدّر ارتفاع القرية عن مستوى سطح البحر حوالي 2000 متر. عند زيارتك لها ستشعر وأنت تمرّ بجنبات أطلال بيوتها وسككها وأزقتها بحنين الماضي حين كانت حياة سكانها نابضة بالحياة مفعمة وهم يمارسون أنشطتهم الزراعية بروح الحب والتكافل والتعاون بين أهلها.

توجد في القرية شتى أنواع المزروعات والمنتوجات الجبلية الشهيرة كالفاكهة مثل الرمان والمشمش والخوخ والتفاح والمزروعات الحقلية كالثوم والبر والقمح والبرسيم، ويعد الورد من أهم المزروعات التي تمتاز بها هذه القرية حيث يمارس أهلها حرفة تقطير ماء الورد الجبلي الشهير.
عدسة «الشبيبة» صعدت إلى القرية لسرد سحر وجمال الطبيعة فيها، والكشف عن أهم معلم تاريخي فيها يعود إلى أكثر من 600 سنة، وذلك من خلال حوار مع الأستاذ حمد بن ناصر الريامي أحد أبناء القرية وسكانها.

هندسة القرية

تتميّز القرية ببيوتها المبنية من الحجارة والطين وفق هندسة العمارة الإسلامية حربية الطراز، حيث تشكّل البيوت فيها لحمة واحدة متراصة الجدران والناظر إليها من أعلا يراها كقلعة طينية ضخمة، أضاف في وصفها الأستاذ حمد بن ناصر الريامي قائلا: يربط بين البيوت أزقة معقودة الأسقف عبر ممرات متداخلة تفضي إلى باحات بين العقود، وضعت عمدا لغايتين -أولها ليتسنى لضوء الشمس الدخول لإنارة هذه الأزقة في النهار- ثانيا لتصريف مياه الأمطار من سطوح المنازل عبر «المزاريب» التي صُمّمت لهذه الباحات، وتفضي كل الأزقة إلى بابين رئيسيين للقرية على طول الطريق المعقود من شمال القرية إلى جنوبها كانت تُغلق ليلا لضمان أمن البلد وتُفتح كل صباح، ولكل باب اسم. فالباب الشمالي يُدعى باب «السديرة» والباب الجنوبي «المواقع» غير أن هذه الأبواب ومع تبدل الحياة بعد العام 1970م تمت إزالتها تدريجيا حتى أن عقود القرية بعضها هدم وتغيّر بناؤها مع وصول المواد الحديثة للبناء كالإسمنت ونحوه، إلا أن بعض الملامح القديمة للقرية ما زالت واضحة وشـامخة أمام كل التحديات الطبيعية والبشرية.
وأضاف الريامي حول الأفلاج وجمال طبيعة القرية، بأن القرية هي منبع المياه وتنبع منها ثلاثة أفلاج هي فلج الأعور وفلج أبو كبير وفلج القنتي التي تروي بساتينها الغنّاء وبساتين القرى الثلاث المجاورة: العقر والشريجة والقشع. وتتميّز القرية بشلالها المائي المنسكب على واديها والذي يتميّز ببحيرته الشهيرة التي يُطلق عليها «المسبحة» عند منبع فلج أبو كبير، الذي يضيف لها بُعدا جماليا رائعا مشكلا مزارا سياسيا مشهورا، ويزداد جمالا المشهد مع تناغم الشلال والمدرّجات والبساتين الخضراء والأشجار الكبيرة المعمّرة من أشجار الجوز بظلالها الوارفة. وإلى ذلك توجد أيضا في القرية أربعة مساجد قديمة موزعة على أرجاء القرية وهي: مسجد الخشبتين ومسجد الأعلى ومسجد النارنجة ومسجد القنتي، ولله الحمد ما زالت عامرة بطابعها الإسلامي ليومنا هذا.

التعليم في عُمان قديما

عرفت عُمان منذ العصور الإسلامية المبكّرة التعليم وخصوصا تعليم القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف والعلوم المرتبطة به من علوم اللغة العربية، ومبادئ الحساب مثلا، وكانت هذه المدارس تدعى «مدارس تحفيظ القرآن الكريم» وهي نفسها المعروفة في ثقافة الحضارة الإسلامية بـ«الكتاتيب» وهو الاسم الذي يُطلق على المكان الذي كان الصبيان يتلقون فيه التعليم، وقد مرّت هذه الكتاتيب المعروفة بمدارس تحفيظ القرآن الكريم بتطورات مختلفة سواء في المبنى أو في المواد التدريسية، فعلى مستوى المكان كانت غالبا ما تقام تحت ظل شجرة، ثم انتقلت إلى مجلس الجماعة بعدها تطوّرت لتصبح حُجرة ملحقة ببيت المعلم ثم تطوّر الأمر إلى أن أصبحت مبنى ملصقا بالجامع أو المسجد الذي يصلي فيه الناس ثم انفرد مبناها بنفسه وتعارف أهالي كل قرية على مكانها باسم مدرسة تحفيظ القرآن. أما من ناحية المواد الدراسية فقد كانت في بدايتها تقتصر على تحفيظ القرآن الكريم وخصوصا قصار السور منه، ثم تدريجيا إلى تحفيظ القرآن كاملا، بعدها درّست الكتاتيب مبادئ اللغة العربية كالخط مثلا، والنحو والصرف والشعر والعروض.. إلخ ثم إلى علوم الشريعة الإسلامية كالفقه والعقيدة والتفسير ثم الميراث وعلوم الحساب.

تاريخ مدرسة العين لتعليم

القرآن الكريم

يحدّثنا الأستاذ حمد بن ناصر الريامي من سكان قرية العين عن تاريخ مدرسة تعليم القرآن الكريم يقول: تم بناء المدرسة في الجانب الشرقي الجنوبي للبلاد على الضفة الغربية لوادي العين ملحقة بمسجد الخشبتين، ويمرّ أسفلها فلج أبو كبير. تعدّ هذه المدرسة من المدارس القديمة الناشئة في الجبل الأخضر إذ يقدّر عمرها بأكثر من 600 سنة. وما يؤكد ذلك وجود أوقاف لها ما زالت موجودة إلى يومنا هذا، وقد ذُكرت تلكم الأوقاف في إشارات ببعض المخطوطات التي ترجع في أصل تدوينها إلى عهد الإمام سلطان بن سيف اليعربي من أئمة دولة اليعاربة، وأضيف إليها بعض الموقوفات في عصر هذه الدولة مما يدلنا على قِدم هذه المدرسة واشتغالها في أداء رسالتها منذ زمن مبكر.
الجدير بالذكر هنا أن المدرسة ساعدت على التمكين الأولي لمخرجات تعليمية بارزة وشخصيات ساهمت في خدمة المجتمع العماني منهم العلامة الشيخ القاضي محمد بن سالم الريامي من علماء وقضاة دولة اليعاربة في عُمان فقد تلقى تعليمه بداية بهذه المدرسة وكذلك أحفاده من بعده. وقد أوقف هذا العالم الجليل لهذه المدرسة أوقافا ما زالت باقية إلى يومنا هذا مثل وقف يُستخدم ريعه للعناية بالكتب لأن لهذه المدرسة مجموعة مخطوطات تحتاج إلى ترميم من تلك الفترة إلى يومنا وهي ما زالت موجودة بحالة ممتازة، وأوقاف للمتعلمين وأوقاف للمعلم. وما لا شك فيه أن المدرسة مرّت بعدة عصور وأزمنة تبدلت الحياة فيها وأصابها ما أصابها من التطور أو التدهور المعيشي غير أن المدرسة ظلت تمارس مهنتها ورسالتها لتصمد أمام كل تلك المتغيّرات حتى عهد قريب وتوقفت المدرسة عن التدريس في العام 1985م لظهور مدرسة بمبنى جديد يجمع المتعلمين بقرية العين وقرية العقر المجاورة وذلك في مدرسة الحقابة التي رُمّمت بالمواد الإسمنتية الحديثة فأصبحت أكثر ملاءمة للتعليم، غير أن مدرسة العين ما زالت باقية وأعيد ترميمها واستأنفت رسالتها التعليمية بعد اكتمال ترميمها العام 2004م.

كيفية اختيار المعلم؟

لكل كتاب معلم ومفكر على مبادئ علم الحياة في مختلف المجالات، وعن كيفية اختيار المعلم قديما لهذه المدرسة يقول الأستاذ حمد الريامي: كان أهالي القرية وشيخهم وكبارات القوم هم من يختارون المعلم من بينهم أو يتم التعاقد عليه من بلاد أخرى، ويجب أن يكون المعلم حافظا لكتاب الله تعالى ومقيما للصلوات ومتبعا لسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وأذكر بعض المعلمين الذين علموا في عصر عهد الإمام سلطان بن سيف اليعربي الشيخ محمد بن سالم بن المر الريامي أول من جدد مدرسة تعليم القرآن الكريم والشيخ ماجد بن مسلم المياحي والشيخ علي بن حمود الريامي، ويعطى المعلم جزءا من أوقاف المدرسة أجر تعليمه لصبيان، وفي يوم بزوغ النهضة المباركة أجزل له راتب معاشي بعد 1970م من حكومة جلالة السلطان مع استغلال للأوقاف التي أوقفها أهل البلد لهذه المدرسة وتخرج كثير من الطلبة الذين أصبحوا اليوم منارات وروافد للتنمية البشرية في شتى مجالات العمل في السلطنة على يد هذا المعلم المغفور له بإذن الله تعالى. وقد عملت في تعليم الصبيان بمدرسة تعليم القرآن الكريم لمدة 12 سنة، حيث علّمتهم كيفية قراءة القرآن الكريم والأحكام والتجويد وكيفية أداء الصلاة وأحكامها.

نظام التعلم في المدرسة

ويضيف الأستاذ حمد الريامي: الأدوات التي كان الطلبة يحضرونها لتلقي العلم كانت مع المصحف الشريف، الذي كان يوضع حفاظا عليه في «بخشة» أي حقيبة صغيرة مُخاطة من الخَلَق الأبيض النظيف ومرفع خشبي ليستند المصحف عليه أثناء القراءة، وكذلك أقلام البوص التي كانت تُصنع من شجرة الحلف أو من ريشة طائر النسر وجرة صغيرة لمداد محلي مصنوع من صمغ أشجار الطلح أو من قشر لحاء شجرة الجوز، ولصناعة الحبر هذه قصة أخرى ومتعة من متع التعليم وأسرار الكيمياء العمانية، كذلك في حال عدم توفر الأقلام أو الصحف والأوراق والمداد كان الشائع استخدام «الصوار» وهو عبارة عن لوح من حجر الكلس الذي كانت تشتهر به قرية العقر ونوع من الصخور على شكل لوح رخامي أحمر ويستخدم للكتابة عليه حجر الرخام الأبيض ليكون الخط واضحا بمعنى كان اللوح الحجري المستخدم كسبورة للكتابة لونها أحمر والطبشور لوح رخامي أبيض يهذب إلى قطع صغيرة تمسكها يد الطفل للكتابة تسمّى محليا «رخام».
كان توزيع الطلبة في المدرسة على شكل حلقة رأسها المعلم ويكون موقعه على باب المدرسة ويلتف الطلبة على شكل حلقة أو قوس يتوزع الذكور منهم على ميمنة المعلم والإناث على ميسرته، ونظام التعليم يتم حسب ترتيب القارئ إلى أي مرحلة وصل في المصحف فيبدأ عادة المعلم بالأطفال الصغار الذين يتلقون أول الأمر مبادئ النظافة والغسل والوضوء للصلاة مرورا بالأطفال الذين هم في قصار السور، وتدرجا بينهم وانتهاء بالأطفال الأكبر سنا والذين وصلوا إلى مرحلة إعراب القرآن الكريم أو قسمة الميراث. كان التعليم بهذه النمطية البسيطة يبدأ من طلوع شمس اليوم حوالي الساعة السابعة والنصف تقديرا بالتوقيت الحالي، وحتى قرب منتصف النهار قبيل الظهر إلى الساعة الحادية عشرة وعادة ما يسبق الطلبة المتعلمون أستاذهم مبكرين يأخذون أماكنهم في المدرسة ويشرف عليهم عريف لفظ النظام المكلف من قِبل المعلم، يحضر الطلبة أدواتهم ويشرعون في مراجعة دروسهم قبل حضور المعلم وقبل مباشرة التعليم، وقد تحلى الطلبة بعظيم الأخلاق والتهذيب، فنتذكر -ومنا من درس في هذه المدارس- حين نبتغي الشرب مثلا نستأذن المعلم بقولنا «سقاك الله المعلم» وعندما نحتاج إلى الخلاء نستأذن بقولنا «رحمك الله المعلم». وأثناء خروج الطلبة يخرجون وفق آلية محددة متعارف عليها يخرج الذكور أولا وهم يرددون أنشودة الختام بأهازيجهم وتسمّى «الرفعة» ثم تتلوهم البنات وخلف الجميع يمشي المعلم وهو يراقبهم حتى وصولهم لمنازلهم بالقرية.
عند ختم الطالب للقرآن أو العلوم في المدرسة تُقام له حفلة داخل المدرسة لوداعة ومباركة ختمه للقرآن يصاحب هذه العادة بعض المأكولات والمشروبات وأنشودة التيمينة وهي عبارة عن أبيات شعرية يرددها الأطفال احتفالا بالمناسبة، مثال عليها:
«تصبح يا معلم بالسعادة... وأمرنــــا بأمرك للرواح
بروح سالمين من الرزايا... وأتونا الغداة من الصباح
فما ضرب المعلم فيه عار... ولا حرج فيه ولا جناح
فإن الضرب يؤذيكم ويبرى... وبعد الضرب تلقون الصلاح».
وفي الختام يتوجه الأستاذ حمد الريامي بنصيحة ورسالة إلى جهات الاختصاص يقول: يجب الحفاظ على هذه العادات والتقاليد في قرى النيابة وصقل الفكر الحضاري للأجيال الحاضرة والمستقبل وتقوية تمسكهم بكتاب الله وسيرة نبيه المصطفى وفهم معانية الحقيقية للحياة وتطبيقها، وعلى وزارة التراث والثقافة والمؤسسات المسؤولة في المجتمع أن تحمي هذا الإرث من الاندثار المحقق، أو أن تتكاثف أيدي الأهالي سكــــان القرى لعمل شركة محلية أهلية هدفها الحفاظ على القرية بنمط معيشتها الكلاسيكي وتحويلها إلى مشاريع سياحية رائدة وذلك تضرب عصفورين بحجر واحد، وهذه دعوة نضمنها هذا المقال لعلها تجد آذانا صاغية وهمم وعزائم مبادرة تعي مسؤوليتها تجاه وطنها ومقدراته.