من إعلام السلطة إلى إعلام الشعوب

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٩/يوليو/٢٠١٨ ٠٤:١٢ ص
من إعلام السلطة إلى إعلام الشعوب

د. فيصل القاسم

لا شك أن وسائل الإعلام منذ أن عرفها الإنسان لأول مرة كانت وما زالت أداة تحكم وسيطرة ونفوذ بيد من يمتلكها، سواء كان ذلك في الديكتاتوريات أو الديمقراطيات، فمن المعلوم أن كل وسائل الإعلام في الدول الشمولية كانت وما زالت خاضعة لسلطة الدولة، فهي البوق الذي تستخدمه السلطات لتوجيه الشعوب والتأثير عليها.

صحيح أن الإعلام يبدو حراً في الديمقراطيات، إلا أنه في واقع الأمر ليس كذلك أبداً، فهو أيضاً خاضع لسلطة من يمتلكه، سواء كانت شركات أو أفراداً. فرغم أن الولايات المتحدة مثلاً تتفاخر بإعلامها الحر، إلا أن معظم وسائل الإعلام الأمريكية على مدى عقود كانت وما زالت تمتلكها بضع عائلات أو ربما أكثر قليلاً، ناهيك عن أن الشركات التجارية تمتلك بدورها صحفاً وتلفزيونات وإذاعات، وكلها موجهة لخدمة مصالح تلك الشركات بالدرجة الأولى رغم تبجحها بالحرية والديمقراطية والتعددية الإعلامية، وخدمة الجماهير.

ولا ننسى أن شخصاً واحداً كالتايكون العالمي الشهير روبرت ميردوك يمتلك لوحده إمبراطورية إعلامية هائلة تشمل التلفزيونات والصحف والمجلات العابرة للقارات. ومثله كثر في أمريكا وبريطانيا وأوروبا وأستراليا.
بعبارة أخرى، ظلت وسائل الإعلام في الشرق والغرب ملكية رسمية أو خاصة حتى ظهرت أخطر وسيلة إعلام عرفها الإنسان على مدى التاريخ، ألا وهي شبكة الإنترنت التي سحبت البساط من تحت وسائل الإعلام التقليدية.
لكن رغم أن الإنترنت حررت الإعلام، وجعلته في متناول وملكية الجميع دون استثناء، إلا أن مرحلة التحرر الإعلامي الحقيقية بدأت فعلياً مع مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت نقلة نوعية حقيقية في تاريخ الإعلام العالمي.
ولعل أبرز تلك المواقع هي «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، وهي مواقع جعلت الإنسان العادي لأول مرة في التاريخ صانع الإعلام بعد أن كان لعقود مجرد مستهلك ذليل للمادة الإعلامية التي تصنعها وسائل الإعلام المملوكة للدول والشركات والأفراد. لقد حوّلت مواقع التواصل الاجتماعي كل إنسان إلى ناشر، ووجهت طعنة نجلاء إلى المتحكمين بوسائل الإعلام في العالم.
فأي صفحة على «فيسبوك» مثلاً هي بمثابة صحيفة كاملة ومتكاملة تنشر فيها المقالات، ووجهات النظر، والأخبار وغيرها، لا بل إنها تتفوّق على الصحف من حيث إنها يمكن أن تكون أيضاً أشبه بتلفزيون؛ لأنها تعرض الفيديوهات والصور. ولا يكلف إنشاء حساب على «فيسبوك» سوى بضع دقائق دون أن تدفع فلساً واحداً. والأجمل من ذلك أن وسائل الإعلام الجديدة ليست بحاجة لا لمكاتب ولا لمقرات، فهي متاحة لأصحابها في أي مكان في العالم، طالما توفر لهم الوصول إلى الشبكة العنكبوتية. لقد تحوّل كل مواطن في العالم إلى صحفي ورئيس تحرير وإعلامي ووسيلة إعلام بحد ذاته. ولعل أبرز تجليات هذا الإعلام الجديد ظهور ما يُسمى بالمواطن الصحفي الذي طالما امتلك هاتفا يستطيع أن يصوّر، وينقل صوره إلى الشبكة العنكبوتية العالمية بسرعة البرق دون المرور، لا على حسيب ولا على رقيب. وحتى الأخبار بات يتابعها الملايين عبر مواقع التواصل السريعة قبل أن يتابعها على وسائل الإعلام التقليدية لسرعتها ومرونتها وتحررها من ربقة الرقابة.
وقد أظهر الربيع العربي مدى اعتماد وسائل الإعلام القديمة على الإعلام الجديد، خاصة «يوتيوب» الذي أصبح بمثابة بنك الفيديو والصور العالمي للكثير من التلفزيونات، وحتى الصحف والمجلات. بعبارة أخرى، فإن إدارة العالم تتغيّر لصالح الذين كانوا على مدى التاريخ مجرد متلق سلبي، أو في محل مفعول به، فأصبحوا إعلامياً في محل رفع فاعل. مع ذلك، ما زال بعض الطواغيت ذوي العقول الصغيرة يعتقدون أن بإمكانهم إخراس الشعوب ومنعها من التعبير.
متى يعلم السخفاء أن الشعوب استقلت عنهم إعلامياً تماماً، وأصبحت تمتلك إعلامها الخاص، لا بل خرج مفهوم تشكيل الرأي العام من أيدي الحكومات تماماً، وأصبح في أيدي الشعوب نفسها. في الماضي مثلاً، كانت وسائل الإعلام الرسمية هي من تشكّل الرأي العام حسب توجهاتها السياسية والاجتماعية، أما الآن فقد أصبح هناك نوع من القطيعة الإعلامية بين الحكومات والشعوب، بعد أن أصبحت الشعوب قادرة بفضل مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً على تشكيل رأيها الخاص من خلال التفاعل فيما بينها، فمرتادو مواقع التواصل يستطيعون متابعة أحداث العالم من خلال تغريدات بعضهم البعض على موقع «تويتر»، أو من خلال متابعة صفحات بعضهم البعض على «فيسبوك». لم تعد وسائل الإعلام الرسمية تحتكر، لا الأخبار ولا الصور، فصاحب الهاتف يمكنه أن يلتقط الصورة، ويكتب الخبر وينشره بثوان على صفحته ليصبح في متناول الملايين بسرعة البرق. وقد أظهرت إحصائية جديدة قبل فترة قصيرة أن غالبية الناس بدأت تستقي الأخبار من مواقع التواصل، وليس من التلفزيونات الرسمية أو حتى الخاصة. «هارد لك» للإعلام الرسمي، ولوكالات الأنباء واللوبيات الإعلامية، بعد أن أصبح الفرد العادي يتابع الخبر، ويحرره وينشره ويعلّق عليه بنفسه. لقد أصبح الإعلام الرسمي محشوراً في زاوية ضيّقة جداً.
وكل من يريد لمادته الإعلامية أن تنتشر على نطاق واسع، فلا بد من تسويقها على مواقع التواصل التي يديرها ويستهلكها الناس العاديون بالدرجة الأولى. ما قيمة وزارات الإعلام في عصر التواصل الاجتماعي؟

إعلامي ومقدم برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة