عمّان - العمانية
يتمتع الحرف العربي بمزايا تجعل منه عند كتابته مطواعا وقابلا للتشكيل الفني. وقديمًا برز الخط العربي كجزء متمم للزخرفة الإسلامية وبخاصة في تزيين المساجد والقباب بالآيات القرآنية، وكذلك في إنجاز لوحات تعتمد على الخط في إبراز رسوم لمخلوقات أو أشكال ترافق القصص والمقامات.
وقد استمر الاهتمام بالخط العربي عبر العصور، وشهدت الفترة الأخيرة التفاتًا متزايدًا من قِبل الفنانين التشكيليين إلى العناصر الفنية التي ينطوي عليها الخط بأنواعه المختلفة، وظهرت مدرسة "الحروفية" التي يعتمد المنتمون إليها على الحرف في تكوين اللوحة التشكيلية، كما توالت الدراسات الفنية حول استعمال الحرف في اللوحة، وتزايد الميل إلى التجريب على تكوينات الكلمة والحرف.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ما قدمته النحاتة الأردنية منى السعودي من لوحات لا ينفصل فيها التشكيل الفني عن الشعر الذي تكتبه وفق فهم يرى في تكوين الحرف العربي نحتا في حد ذاته، حيث ترسم هذه النحاتة أشكالا تحاكي منحوتاتها ثم تملأ الفراغات بأشعار منتقاة، ومن ذلك قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وقصيدة "رقيم البترا" لأدونيس، حيث تخطط السعودي الكلمات لتبدو متصلة ومنسابة ورفيعة تترك للضوء والبياض المساحة الأكبر.
وهناك تجربة شبيهة جمعت بين قصائد محمود درويش وتشكيل الجزائري رشيد القريشي وخط العراقي حسن المسعودي، حيث جاءت اللوحات وفق تشكيلات كبرى يحتل تكوين الحرف مساحتها الأوسع ثم تأتي الكتابة كمنمنمات وتراكيب تبدو مثل الطلاسم غير المقروءة، وهي تنقل الكتابة من وظيفتها التصويرية المقروءة إلى وظيفة رمزية، حيث تبدو الخطوط منسابة في كل اتجاه، مقلوبةً تارة ومعتدلةً تارة أخرى، وممتدة تارة ثالثة، حتى لكأنها تحاول الخروج من إطار اللوحة لتستمر في التنفس عبر فضاء كوني لا محدود.
وهناك ما قدمته الفنانة الأردنية الأميرة وجدان، حيث اشتغلت في لوحاتها على مفهوم الحروفية بطريقة تجديدية، مستفيدة من طاقة الحرف التشكيلية والرمزية والجمالية والتعبيرية، ومستخدمة اللون بحساسية تزاوج بين المادي والروحي، وتضع الجزء في مدارات الكل.. وبذلك تجاوزت لوحاتها حدود الإطار لتترك للحرف حرية الامتداد خارجه.
وتعددت التجارب العربية الخاصة باستخدام الخط العربي وحروفه، وهي في جلّها تدرك السمة الروحانية الكامنة في الخط العربي، إذ إن الحرف العربي الصارم في بنائه الهندسي، والمرن في الوقت نفسه بما يكفي للتكيف مع الشكل الذي يمكن أن يتقولب فيه، يجمع في تكوينه بين البساطة والتعقيد، وبذا ينطوي في داخله على معانٍ باطنية تسمو على المعنى الظاهري، وتوحي تشكيلاته الجمالية بحالة صوفية وسمو روحي.
هذا ما تشي بها تجارب متنوعة من بينها تجربة التشكيلية الباكستانية نورين أخطر، التي اعتمدت على التكرار والدوران الذي يذكّر بصوفية الدراويش، في تشكيلات حروفها، مع تنويع في الألوان والمواد المستخدمة، حيث تعتمد تقنية الليزر لتفريغ الحروف في الكلمات التي خُطّت فوق ورق سميك، فتبدو كأنها غائرة في العمق من السطح تحاول النفاذ إلى الباطن.
وهناك تجربة الفنان الجزائري محمود طالب الذي كرّس جلّ أعماله لثيمة الحرف العربي، مقترحا أشكالا وتجلياتٍ بصرية جديدة له، مازجا بين أسلوب النحت البارز وعناصر اللون التجريدية التي تؤشر على فلسفة صوفية وتوحي بأشكال غيبية لا يمكن للمشاهد الاستدلال على وصفٍ واضح لها لكنه يستشعرها في ذاته وأعماقه.
التجريد ظهر بوضوح أيضا في أعمال الفنان التشكيلي الإيراني محمد إحصائي الذي قدم لوحات تحاول بلوغ خطٍّ لا يتضمن صورة أو عبارة، بل يعتمد على الشكل المجرد للحرف العربي، ويحاول هذا الفنان إيصال الإحساس بتكوين الحرف العربي حتى لمن لا يكتب أو يقرأ بالعربية، وبهذا الفهم يصبح الخط العربي صورة فنية جمالية خالصة.