علي ناجي الرعوي
لم يكن حتى أشد المتشائمين من المحللين اليمنيين أو الخارجيين يتوقع أن تطول الحرب في اليمن وتستمر كل هذا الوقت والذي يقترب من 40 شهراً ابتداء بعاصفة الحزم، ومروراً بإعادة الأمل وانتهاء بعمليات الحسم.. بل إن الخيارات الأكثر منطقية كانت تميل في الغالب إلى أن المشكلة في اليمن ليست عصية على الحل كما هو الحال في سوريا أو ليبيا وأن الوصول إلى اتفاق سلام في هذا البلد لإنهاء هذه الحرب العبثية واللا إنسانية يعد أمراً ممكناً.. لكن وعلى العكس من كل هذه التوقعات فقد تحولت هذه الحرب بفعل مجموعة من العوامل إلى حرب مفتوحة لا يحكمها إطار زمني أو ضابط أخلاقي أو عدالة إنسانية إلى درجة أن الطريق إلى السلام فيها أصبح أكثر مشقة ووعورة من طرق الحرب التي تظهر ممهدة ومعبدة أو مفتوحة كأبواب جهنم.
وفي غمرة اللا فهم هذه تهجم علينا أسئلة تبدو في ظاهرها نظرية جداً، ولكن اعتقد أنها مهمة في جوانب كثيرة أهمها أنها تشكل مدخلاً لابد منه للفهم كي نستطيع أن نفكر فيما هو واضح أو فيما لا يزال يلفه الغموض ويحتاج إلى بعض التوضيح.. ومن هذه الأسئلة في هذا المضمار ليس ماهو البديل للحرب بل ما المطلوب لتهيئة الظروف للخروج من هذه الحرب على اعتبار أن الحل السياسي في النهاية سيبقى خياراً لابد منه حتى يتجاوز اليمن أزمته الراهنة.. وبيت القصيد هنا انه لا يكفي أن يتغزل الجميع بالسلام ويمدحه ويقول فيه أجمل الكلام واعذبه فيما نجد عمليا أن لا أحد في الداخل اليمني أو الخارج الإقليمي والدولي حريصا على إيجاد الأرضية الصلبة التي يمكن أن تقف عليها مقومات هذا السلام، فما تنبئ به المتغيرات والتعقيدات التي تجري وتتراكم تباعا في الساحة اليمنية يشي تماما إلى أن هذه الساحة أصبحت ليست أكثر من ميدان للمساومة مع ساحات أخرى من ساحات الصراع في المنطقة سيما بعد أن تمت إزاحة أطراف النزاع اليمنية بتوجهاتها ومشاريعها المختلفة عن المشهد لتغدو أشبه ما يكون بأدوات رديفة تعمل تحت أمرة القوى المتصارعة في الإقليم ومن يقف خلفها من الفاعلين الدوليين الذين يحركون بيادق الشطرنج في رقعها.
لقد كتب الكثيرون حول ما يجري في اليمن لكن من النادر أن نجد من يتحدث عن الأسباب التي كانت وراء إطالة أمد الحرب على الساحة اليمنية، والأطراف المسؤولة عن شيطنة الحل وإفشال كل المحاولات والمبادرات والمساعي الهادفة إلى إعادة الحياة إلى شريان هذا الجسد المنهك خصوصا، وقد عرف اليمن فرصاً ضائعة بالجملة منذ مارس 2015 إذ لم تبق دولة غربية أو كبرى تقريبا إلا ودخلت على خط الأزمة اليمنية أما في محاولة لإخمادها أو من أجل تأجيجها حيث كانت هناك مبادرات أمريكية وأخرى بريطانية وأوروبية وروسية عوضاً عن سلسلة طويلة من المبادرات الأممية التي فشلت جميعها في إيقاف هذه الحرب وإعادة السلام ليبقى الحل السياسي في اليمن بعيد المنال نتيجة تضارب المصالح الإقليمية والدولية، وعدم رغبة عرابي الحلول في دفع فاتورة السلام والتي مهما تطلبت من الأموال فهي لا تعادل الأموال التي تنفق على استمرار الحرب حيث ظل رهان القوى الخارجية يقوم على أضعاف كل الأطراف المحلية وتعميم حالة توازن الضعف بما لا يسمح لأي طرف بحسم الصراع لصالحه وفرض شروطه على الآخر.
من المفارقات حقا أن يتكرر الحديث من قبل المبعوث الأممي مارتن غريقيث عن أن السلام في اليمن أصبح مطلباً ملحاً للأطراف الدولية الفاعلة وكذا لقيادة التحالف العربي وأفرقاء النزاع في اليمن إذ إن وجه المفارقة هنا انه وطالما كل هذه الأطراف راغبة في السلام، وإيقاف الحرب والتوصل إلى تسوية سياسية تقر بفكرة التسامح بدلا عن الإقصاء والإلغاء فأين المشكلة إذن؟ ومن هو العائق إزاء قضية وقف الحرب والعودة للحوار وخيار السلام؟ وبصرف النظر إن كان الهدف من وراء هذه التصريحات هو بث الأمل لدى البسطاء الذين ينتظرون اللحظة التي تتوقف فيها الحرب للخروج من محنتهم التي تتسع يوماً بعد يوم أو لفت الأنظار إلى تحول مفاجئ في المواقف الدولية من شأنه أن يدفع بالأزمة اليمنية نحو الحل السياسي يبقى من الواضح أن ليس كل ما يقال في وسائل الإعلام يعبر عن الحقيقة بدليل أن الأطراف الأكثر حماساً للحرب والمهووسة بأوهام الخيار العسكري هي الأكثر تبشيراً بالسلام والأكثر ترويجا له وهو ما يجعل المبعوث الدولي يتحرك في حلقة هامش السياسة فيها ضعيف إلى حد كبير فهو من قد يسمع وعوداً من هذا الطرف أو ذاك عن التزامه وتمسكه باستحقاقات عملية السلام والتفاوض لكن حينما ترجح كفة الحرب لصالح ذلك الطرف فإنه الذي يصبح أكثر تشدداً ورفضاً للحلول السياسية حتى قبل أن تطرح.
لقد تاه مارتن غريفيث وسط خلافات أطراف الصراع، وربما أضاع طريق خارطته التي وضعها لتكون السبيل إلى الحل، والسبب يكمن في الفخ الذي وضعته الأمم المتحدة أمامه والمتمثل بالمرجعيات الثلاث التي رسمت من قبل المجتمع الدولي للحل السياسي باليمن، وهو ما عطل كل الحوارات السابقة وعمق هوة الخلاف وجعل القرار الداخلي مرتهنا للخارج الذي لم يحسم امره عبر حل يلتقي حوله الجميع، وحين يتيقن المبعوث الدولي من هذه التعقيدات فإنه الذي قد يعيد حساباته ويقرأ المشهد بعين أخرى تسمح له برؤية الأشياء كما هي ومن ذلك أن الحل في اليمن تقف أمامه عقبات كبيرة ليس من السهل تجاوزها أو القفز عليها وانه الذي قد يجد نفسه يلحق سابقيه ولد الشيخ وبنعمر تاركاً ملف اليمن لغيره ليبدأ مهمته من المربع الأول.
إن طموح الأمم المتحدة من خلال بعثتها هو أن تنجز تسوية سياسية تتوج بها عملها في اليمن على امتداد سبع سنوات مضت، وهي تدفع لذلك بكل السبل الممكنة عبر التشاور مع الأطراف الداخلية والتواصل مع القوى الإقليمية والدولية، ويبقى مثل هذا الطموح مشروعاً ولكن بلوغ غايته يبدو صعباً في ظل التحديات الماثلة وأهمها المرجعيات لهذه التسوية، والتي تعتبر محل خلاف وتجاذب بين التيارين الرئيسيين في البلاد تيار الشرعية وتيار حركة أنصار الله والقوى المحسوبة عليها فالشرعية ترى بأن الضمانة الأساسية لأي حل سياسي لابد وأن يستند إلى تلك المرجعيات في حين نجد أن تيار حركة أنصار الله يعتقد انه لا إمكانية لنجاح أي مفاوضات تبنى على تلك المرجعيات، ومن جانب آخر تحاول الأمم المتحدة أن تلعب دور الطرف المحايد في الصراع، والذي يقوم دوره على إطفاء الحرائق وإضفاء السلام لأن ذلك هو من صلب وظيفته التي جاء من أجلها.. وأمام هذه التناقضات فقد ظل الجميع يدور حول رهانات خاسرة وحسابات خاطئة تصب في غير مصلحة الاتفاق وإطلاق أي تسوية سياسية سواء داخلية كانت أو جاءت من الخارج.
لقد مل أغلب اليمنيين من الاقتتال الذي أفرز حالة شديدة القتامة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واليوم تعيش البلاد واقعاً صعباً نرى فيه حكومات تقاتل حكومات ومؤسسات تحارب مؤسسات وحروبا أحدثت دماراً هائلاً على جميع المستويات وكذلك فتن وخسائر بشرية ونزعات انفصالية وتقسيمية وواحدة من أسوأ كوارث القرن فيما يصمت ضمير العالم عن كل هذا، ويكتفي بدعم الحلول المقترحة عبر الأمم المتحدة رغم علمه أن فاقد الشيء لا يعطيه.
كاتب يمني