فقراء الإحساس..

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٠/يوليو/٢٠١٨ ٠٤:٣٤ ص
فقراء الإحساس..

د. لميس ضيف

أظهرت دراسة بريطانية حديثة، نشرتها صحيفة BUSINESS INSIDER أن نزعة مَن يكسبون مالاً قليلاً لمشاركة الآخرين بأموالهم أقوى من نزعة الأثرياء، وأن الذين يكسبون المال صدفةً أقل ميلاً للتبرّع مقارنةً مع الذين جمعوا أموالهم بجهدهم وكفاحهم. وهو أمر نراه دوما ونختبره في كل فرصة، وكم كنا نرغب أن تقدِّم لنا الجامعة تفسيرا لهذا الأمر الذي يُثير الحنق والعجب على حد سواء.

على مدار أعوام، كنّا نعمل على ملف مساعدة الطلبة المحتاجين -والمتفوّقين- على الحصول على فرصة للدراسة في الخارج، وقد وجدنا كثيرا من المحسنين المستعدين لتبنّي هؤلاء دراسياً لمساعدتهم على تحقيق أحلامهم. كنّا نخاطب في المتبرّع إنسانيّته وشهامته ونحن نستعرض ظروف حياة هؤلاء وإمكانياتهم التي تؤهّلهم، لا لتغيير حياتهم فحسب، بل وتغيير حياة عائلتهم بأسرها.
ذات يوم، وبتثاقل لا يحتاج لتبرير، حملت قضية إحدى الطالبات لجلسة نسائية لرفيقات من الطبقة المخملية، اللواتي تلبس الواحدة منهن ساعة بـ20 ألفا وحذاءً بـ800 ريال وحقيبة بألفين ومجوهرات بمئات الآلاف. حدست أن مطالبتهن بتبنّي حالة، ستكلّفهن في العام مبلغا لا يتجاوز الـ5 آلاف ريال ولأعوام معدودة، ستكون مهمة يسيرة.
أخبرتهن أنها ابنة سائق سيارة أجرة وأنها تقطن، وعائلتها المكوّنة من 6 أفراد، في شقة إسكان من غرفتين، وأن العائلة بأسرها كانت تراهن عليها، فيتكدسون كلهم في غرفة واحدة ليخلوا لها غرفة تذاكر فيها إناء الليل وأوساط النهار. وقد حصلت على مجموع مشرّف وحصلنا لها نحن على موافقة في جامعة ألمانية ستُعفيها من نصف المصاريف ولكنها بحاجة لمَن يسدد الباقي.
وكم كان حرجي كبيرا، وحنقي أكبر، عندما صدوا عني وأنا أحكي قصّتها، بل ولامتني إحداهن على طرح موضوعها بحجة أنهن لا يردن سماع قصص كهذه «تعوّر القلب». وأثنت إحداهن على تعليق صاحبتها وأردفت: «هذه المواضيع تكدّر الخاطر وتسبّب لي الأرق ليلا»!
احتقن قلبي بالقهر من تعليقاتهن. وكنت أود أن أقول لهن: اتركوا «عوار القلب» لغيركم أنتم تملكون إحداث فرق. ولكني لم أفعل.. وغني عن القول أني ما لبّيت لهن دعوة بعدها -لا لأني جُرحت- بل لأن مخالطة شخصيات سطحية أنانية أمر لا يليق بي. لذا لم تفاجئني نتيجة جامعة ماري كوين حقا فنحن نراها واقعيا كل يوم. في الطرقات يقف صاحب السيارة المتواضعة لشحن بطارية مَن توقفت سيارته في عرض الشارع بتلقائية، ويعرض توصيل عابر بكل سرور. فيما يمرّ صاحب السيارة الفارهة على أمثال هؤلاء دون أن يلحظهم وكأنهم غير مرئيين، وهم بالفعل غير مرئيين لراداره السامي. نستثني من ذلك بالطبع فئتين: الفئة العصامية التي تحفظ في نفسها معزة للفقراء مهما علا قدرها، وفئة أخرى أغفلتها الرسالة وهي تلك التي ترجو رحمة الله، والتي ترى المال وديعة واختبارا لا ملكا شخصيا ليُهدر. ولولا دفع هؤلاء بمالهم وعطائهم لغيرهم لما تغيّرت أقدار غيرهم للأفضل.
فتحيّة لمَن أغنى الله قلبه بالرحمة، ولا عزاء لفقراء الإحساس الذين يطوفون حول نفسهم متخيّلين بأنهم محور الكون.

lameesdhaif@gmail.com