د. فيصل القاسم
لنتفق أولاً أن لعبة كرة القدم لعبة وطنية سياسية بامتياز يتحمس لها المشجعون على أساس سياسي ووطني بالدرجة الأولى. ولو لم تكن أداة تأثير وتلاعب سياسي لَما موّلتها الدول وأنفقت عليها البلايين. وغالباً ما تظهر العواطف والميول والاتجاهات والعصبيات والتحزبات الوطنية الجياشة في المباريات كتعبير عن الانتماء والولاء الوطني والقومي والديني والحزبي والعقائدي. فمثلاً رأينا أن كثيراً من العرب شجّعوا فرق المغرب ومصر وتونس في كأس العالم على أساس قومي أو ديني. ولا ننسى أيضاً أن بعض العرب شجّعوا الفريق الروسي ضد الفريق السعودي لأسباب سياسية. إذن، فإن الرابط القومي والسياسي يلعب دوراً كبيراً هنا، لكن هل هذا الكلام ينطبق فقط على المباريات التي يكون فيها لدى شعب من الشعوب أو قوم من الأقوام فريق مشارك في هذه البطولة الإقليمية أو الدولية أو تلك، أم إنه ينسحب على كل المباريات والفرق المشاركة فيها. على أي أساس تشجع الجماهير هذا الفريق أو ذاك في بطولة كأس العالم مثلاً عندما تكون المباراة بين فريقين لا علاقة وطنية أو قومية أو سياسية للجمهور بها؟ لماذا نشجع فريقاً ضد آخر مع العلم أنه لا تربطنا به أي رابطة سياسية أو وطنية أو عاطفية؟ لماذا نتحمس لبعض الفرق في قارة أخرى تبعد عنا ألوف الكيلومترات؟ لماذا يشجع الكثير من العرب فريق ريال مدريد ضد برشلونة أو العكس، مع العلم أن الفريقين ليسا عربيين أو وطنيين؟ لماذا يتأهب الملايين في أنحاء العالم ومنهم العرب لتشجيع الفريق البرازيلي مثلاً أو الألماني أو غيرهما كفرق أمريكا اللاتينية؟
ليس صحيحاً أبداً أن كل الناس تشجع فريقاً بناءً على مهاراته الكروية ولعبه الجميل. ففي كثير من الأحيان تدخل عوامل أخرى تدفعنا لنقف ضد هذا الفريق أو ذاك حتى لو كان يلعب بشكل رائع. صحيح أن كثيرين في هذا العالم يحبون الفريق البرازيلي أو الألماني بغض النظر عن الموقف السياسي من الدولتين اللتين ينتمي إليهما هذان الفريقان. لكن هذا قد ينطبق على البرازيل أكثر مما ينطبق على ألمانيا لأسباب سياسية وثقافية وتاريخية. وقد تكون البرازيل والأرجنتين والبرتغال من البلدان القليلة جداً التي تحظى فرقها بمحبة الجماهير العالمية فقط لأسباب تتعلق بمهارة الفريق ولاعبيه. كثيرون يحبون الفريق الأرجنتيني لأنهم يحبون أداء اللاعب العالمي ليونيل ميسي فقط، ومن قبل أداء دييجو مارادونا، وكثيرون أيضاً يشجعون الفريق البرتغالي لأنهم يحبون أداء اللاعب العالمي الكبير كريستيانو رونالدو. وكذلك الأمر بالنسبة للفريق البرازيلي الذي ارتبط بأسماء كبيرة تاريخياً أحبها الجمهور منذ أيام اللاعب التاريخي بيليه. ولا ننسى أن كثيرين من العرب مثلاً شجعوا فريق ليفربول الانجليزي فقط لأن فيه اللاعب المصري العربي الشهير محمد صلاح بالدرجة الأولى ضد فريق ريال مدريد بالرغم من أنهم قد لا يشجعون الفرق الانجليزية عادة، أو العكس، كأن ترى مثلاً بعض العرب يشجعون ريال مدريد لأن فيه لاعبين عرباً كأشرف حكيمي من المغرب وبنزيما من الجزائر رغم أنهم قد لا يكونون من مشجعي الفرق الإسبانية دائماً. لكن بعيداً عن هذه الاستثناءات، لا شك أن تشجيعنا لهذا الفريق أو ذاك يعتمد على مواقفنا السياسية والثقافية والدينية والعرقية والجغرافية.
سألت مشجعاً عربياً: من شجعت في المباراة بين بلجيكا واليابان؟ فقال: شجعت اليابان لسببين، أولاً لأن اليابان لا تنتمي إلى الغرب الذي استعمرنا واحتل بلادنا، وثانياً لأنني أتعاطف إنسانياً مع الفريق الياباني لأنه أضعف من الفرق الأوروبية الشرسة، وكنت أتمنى لو أنه هزم الفريق البلجيكي رغم أن البلجيكي فريق متميّز عالمياً. وسألت آخر: من شجعت في المباراة بين الفريقين الدنماركي والكرواتي، فقال: شجعت الفريق الدنماركي؛ لأنني لا أنسى ما فعله الكروات المجرمون بمسلمي البوسنة، حتى لو فاز على الدنماركي بركلات الجزاء، كما أنني شجّعت الفريق الإسباني ضد الفريق الروسي نكاية بالدور الذي يلعبه الرئيس الروسي في سوريا، مع العلم أن الفريق الروسي ليس بقوة الإسباني تاريخياً. وكنت مستاءً جداً من أي عربي شجع الفريق الروسي.
وسألت مشجعين عرباً آخرين: من شجعت في مباراة فرق أمريكا اللاتينية كالأوروجواي وكولومبيا مع الفرق الأوروبية، فكان الرد أن الأغلبية شجّعت الفرق الأمريكية الجنوبية؛ لأن المشجعين يعتبرون البلدان التي تنتمي إليها تلك الفرق قريبة لنا في شكل علاقتها مع الولايات المتحدة، وأن الشعوب الأمريكية اللاتينية هي مثلنا ضحية السياسات الأمريكية العدوانية. ولهذا نرى أن غالبية الجمهور العربي تصطف بشكل تلقائي إلى جانب الفرق اللاتينية الفقيرة؛ لأن الهم السياسي واحد. ومن المضحك أن كثيرين يشجعون الفرق التي تنتمي إلى بلدان تشبه بلداننا في فقرها ومظلوميتها، حتى لو كانت ضعيفة وأقل مهارة بكثير من الفرق الغربية؛ فقط لأسباب إنسانية أقرب إلى السياسية. ومن اللافت أيضاً أن كثيرين يشجعون الفرق الاسكندنافية ضد الفرق الأوروبية؛ لأن الدول الاسكندنافية ليس لها تاريخ استعماري قريب مع العرب والمسلمين كالقوى الأوروبية التي استعمرتنا في القرن الفائت.
باختصار، صحيح أن ملايين البشر تشاهد وتستمتع بهذا الحدث العالمي الكبير (كأس العالم) وتعتبره مناسبة جميلة جداً للمتعة والإثارة، لكن يجب ألا ننسى أن حتى هذه المتعة مجبولة بعواطف ومواقف واعتبارات سياسية فاقعة.
مقدم برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة