أ.د. حسني نصر
تمخضت قمة جاكرتا الإسلامية الاستثنائية التي عقدت الأسبوع الفائت حول فلسطين فولدت بيانا بلاغيا مكررا يعرف من كتبوه، وكذلك من وقعوا عليه أن كل ما جاء فيه مجرد كلام، الهدف منه هو أن تقول الدول الإسلامية لشعوبها وللعالم نحن هنا وما زلنا رغم مشاغلنا الكثيرة نهتم بفلسطين والمسجد الأقصى، حتى وان اقتصر هذا الاهتمام على عقد القمم وإصدار بيانات الشجب والإدانة الجوفاء. المؤكد أن القمة التي عقدت في العاصمة الإندونيسية، بناء على طلب السلطة الفلسطينية، لم تأت بجديد على صعيد معالجة الوضع المتدهور في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومواجهة العنف الإسرائيلي المتزايد في التعامل مع الفلسطينيين، والانتهاكات المستمرة للأقصى الشريف.
إن مراجعة سريعة للبيان الختامي لهذه القمة ومقارنته ببيانات قمم مماثلة إسلامية وعربية سابقة، تؤكد أننا نحافظ بإخلاص منقطع النظير على نفس النهج العربي والإسلامي المتميز، والمتمثل في إعادة إنتاج نفس الخطاب على مدي سنوات طويلة دون كلل أو ملل، ودون أن نحول الكلمات المنمقة والعبارات الرنانة إلى أفعال حقيقية. وانطلاقا من هذا فان قمة جاكرتا يمكن وصفها بانها قمة تحريك لا قمة تحرير، مثلما كان يقال عن حرب أكتوبر 1973، استهدفت في الأساس إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة والي أجندة العالم السياسية والإعلامية ربما لبعض الوقت، بعد أن طغت عليها ونقلتها إلى مؤخرة اهتمامات العالم أحداث المنطقة الأخرى الأكثر سخونة مثل الحرب العالمية التي تشهدها سوريا، والحرب في اليمن، وفي العراق، والحرب المزعومة على الإرهاب القائمة في أكثر من قطر إسلامي.
ما يقرب من ثلاثة الآف كلمة تضمنها البيان الختامي للقمة، ضاع منها نحو تسعمائة كلمة في التأكيد على المسلمات المتوارثة منذ ضياع فلسطين، مثل أهمية القضية واعتبارها القضية المركزية، وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والفلسطينية، بما فيها مدينة القدس الشريف، باعتبار أن ذلك يشكل مطلباً دائماً للأمة الإسلامية، وتعزيز دعم صمود أبناء الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، بما فيها مدينة القدس الشريف، وتأمين الموارد اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
ورغم تنوع الأفعال التمهيدية الكثيرة التي استخدمها البيان، والتي تراوحت بين تؤكد، وتجدد التأكيد، وتعرب، وبين تستنكر، وتعي، وتشدد، وتدرك، وتشيد، فإن حصيلة كل هذه الأفعال القوية تبقي واحدة ولا تخرج عن ما سبق تأكيده من قبل في أكثر من مناسبة، مثل أن المسجد الأقصى المبارك وهو أولي القبلتين للمسلمين سيظل حقا حصريا للمسلمين، والانزعاج من الهجمة الوحشية والإجرامية لقوات الاحتلال الإسرائيلي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين، فضلاً عن الإجراءات الأخرى المدمرة على الأرض في جميع أنحاء دولة فلسطين المحتلة. وبعد هذا التمهيد الطويل فإن القرارات الاثنتين والثلاثين التي تضمنها البيان سارت هي الأخرى على نفس وتيرة إعادة اختراع العجلة، مع إضافة بعض التحذيرات، وإبداء الأسف، وعقد العزم، والإدانة، والدعوة، والتأييد، والإشادة، والحث، والترحيب.
عندما تقرأ هذه القرارات الكثيرة تشعر على الفور أنك سبق وان قرأتها في أماكن أخرى كثيرة، وتكتشف بقليل من إعمال العقل أنها لا تخرج عن كونها عبارات منمقة لا تحمل أية آلية للتنفيذ على أرض الواقع. والمثال على ذلك القرار الأول الذي يؤكد اتخاذ جميع التدابير اللازمة على جميع المستويات لتوفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني والحفاظ على حرمة القدس الشريف ومكانته، ولاسيما حرم المسجد الأقصى المبارك، والسؤال هنا ما هذه التدابير وكيف ستقوم الدول الإسلامية بتوفير تلك الحماية في وقت لا يستطيع بعضها توفير الحماية لمواطنيها داخل حدودها؟ وعلى نفس المنوال يشير القرار الثالث إلى اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة، وعلى وجه السرعة، لوضع حد للاستفزازات المتعمدة والهجمات التي تشنها السلطة القائمة بالاحتلال على حرم المسجد الأقصى، والذي خلا كالعادة من الإفصاح عن إجراءات محددة، وذلك لسبب بسيط وهو أنها غير موجودة من الأصل. ولا داعي هنا للوقوف أمام قرارات الإشادة التي تضمنها البيان، والتي شملت دولا وزعماء دول لدعمها للشعب الفلسطيني والدفاع عن الأماكن الإسلامية المقدسة في مدينة القدس الشريف. ولا نعلم ماذا سيكون عليه حال الشعب الفلسطيني وحال الأماكن المقدسة لولا هذا الدعم الذي نسمع عنه ولا نراه.
نعلم أن هذه القمة الاستثنائية ما كان لها في ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة أن تخرج بأكثر مما خرجت به، خاصة في ظل تراجع القضية الفلسطينية في قائمة الاهتمامات العربية والإسلامية، واستمرار عمليات التشويه الإعلامي المنظمة التي طالتها على مدي السنوات الأخيرة. وفي تقديري أن هذا التشويه بدأ ينعكس سلبا على إدراك وموقف الجماهير العربية من القضية الفلسطينية خاصة لدي الأجيال الجديدة التي لم تقرأ التاريخ ولم تستوعب دروس الماضي. ويكفي أن تسأل عينة من الشباب العربي لتعلم أن قضية فلسطين أصبحت تحتل لديهم ترتيبا متأخرا في قائمة القضايا الإقليمية والعالمية التي يهتمون بها، بل أن بعضهم قد يعبر عن انحياز واضح للعدو الإسرائيلي على حساب الشقيق الفلسطيني، ويشيد بحكمة الإسرائيليين وتمدنهم وقدرة قادتهم على قيادة العالم، ويدعو علنا إلى تطبيع العلاقات معهم وتضييق الحصار على أهل غزة، ومنع المساعدات عنهم، والانتصار للمفاوضين المتعثرين على حساب المقاومين الذين يحملون السكاكين في وجه من يحملون المدافع الآلية.
في زمن التراجع العربي الذي نعيشه لا يهم كثيرا أن تعيد القمة الإسلامية الاستثنائية إنتاج خطابها القديم، رغم تغير الأوضاع وزيادة الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، المهم أن هذه القمة قد أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العربي لوقت قصير، وهو أمر محمود ويجب أن يستمر، حتى وان كان على مستوى الكلمات والشعارات. لقد شهدت القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة وتحديدا في العام الفائت انحسارا سياسيا وإعلاميا كبيرا، ولم تعد كما يدعي البعض القضية المحورية للعالم الإسلامي أو العالم العربي، وتقدمت عليها قضايا أخرى عديدة، ولذلك يجب علينا أن نرضي من قمة فلسطين الإسلامية بالقليل، حتى وإن كان بيانا بلاغيا لا يسمن ولا يغني من جوع.
أستاذ الصحافة والنشر الإلكتروني بجامعة السلطان قابوس