متى يتعاون العرب؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/يونيو/٢٠١٨ ٠٥:٣٤ ص
متى يتعاون العرب؟

أحمد المرشد

يبدو أن الأمل في التوصل إلى عمل عربي مشترك، ‏على الصعيد السياسي والعام‏، ‏قد أصبح بعيد المنال‏، ‏على الأقل في المدى المنظور‏، ‏إلى أن نستطيع ـ على الأقل ـ إعادة بناء نظام عربي جديد‏، ‏يحل محل النظام القائم الذي تفتت عمليا‏، ‏بعد أن تلقى ضربات قاصمة بسبب الفرقة العربية وانتهى ‏عمره الافتراضي بانهيار النظام العالمي الثنائي القطبية‏، ‏الذي كان جزءا منه‏، ‏ليحل محله نظام دولي أحادي القطبية لا يزال في طريقه إلى ‏التبلور‏.‏ لكن ذلك لا يفضي حقيقة تاريخية‏، ‏كانت قائمة قبل نشوء هذا النظام‏، ‏وستظل قائمة في ظل النظام الذي سيحل محله‏، ‏وهي أن العرب أمة فيها كل خصائص الأمة‏، ‏وأنهم سيظلون كذلك حتى لو عجزوا ـ بشكل مؤقت أو دائم ـ في التوصل إلى حد أدنى من الرؤى السياسية المشتركة التي تواجه مشكلاتهم الكبرى‏، ‏أو ابتداع شكل من أشكال التنظيم الإقليمي يكون وعاء لتعاون أكثر شمولا مما هو قائم الآن‏.

أما المؤكد فهو أن الثقافة العربية‏، ‏هي أحد أهم العوامل التي بلورت حقيقة أن العرب أمة‏، ‏وحافظت على ذلك‏، ‏على ‏امتداد قرون شهدت انقلابات سياسية عظمى‏، ‏توحدت خلالها هذه الأمة ـ أحيانا ـ في دولة متسعة الأرجاء‏، ‏وانقسمت أحيانا إلى أقاليم تخضع لنظام شبه كونفدرالي‏، ‏واستقلت أقطارها ـ خلال الحربين العالميتين في القرن الماضي وفيما بينهما وبعدهما ـ في دول وطنية‏، ‏تحارب بعضها البعض من أجل كيلومتر من خط الحدود بينهما‏، ‏ومع ذلك كله ظلت الحقيقة الثابتة تقول إن هناك ثقافة عربية واحدة تصنعها لغة واحدة‏، ‏وتاريخ مشترك‏، ‏يبلوران تاريخا مشتركا‏، ‏ويتخلق منهما جميعا مصالح مشتركة‏، ‏تتحدى موجات الفتور والخصام وتجميد العلاقات والحملات الإعلامية المتبادلة بين دولتين أو معسكرين عربيين‏.

نظرة عابرة إلى تاريخ القرنين الأخيرين الذي تبلور خلالهما المشروع النهضوي العربي‏، ‏تكشف عن الدور المهم الذي لعبته الثقافة العربية في بلورة هذا المشروع‏، ‏على الرغم من بدائية وسائل وأدوات الاتصال في أولهما‏، ‏وتطورها البطيء في ثانيهما‏، ‏ومع ذلك استطاعت النخب الثقافية العربية‏، ‏أن تبلور رؤية مشتركة‏، ‏تذهب إلى أن الانتصار في الحرب على جبهة التخلف والجهل‏، ‏هو أول خطوة في الطريق إلى الانتصار في الحرب على جبهة التبعية والاحتلال الأجنبي‏، ‏وجبهة الاستبداد المحلي‏، ‏ليكون ذلك بدوره‏، ‏خطوة في الطريق إلى وصل ما انقطع‏، ‏لتعود الأمة العربية لممارسة دورها في إثراء الحضارة المعاصرة‏، ‏التي أسهمت بدور وافر في تأسيسها‏، ‏حين نقلت بذورها في القرون الوسطى لتنمو في أرض الفرنجة‏، ‏في الوقت الذي كان فيه القحط والجفاف‏، ‏يقتلان هذه البذور في الأرض العربية‏.‏ وبوسائل بدائية تماما‏، ‏وفي مناخ من التخلف الشامل في كل مجال‏، ‏استطاعت الثقافة العربية‏، ‏أن تخترق حدود الزمن‏، ‏وحدود الأقطار‏، ‏وأن تتفاعل فيما بينها‏، ‏فتتبادل المخطوطات‏، ‏ثم الكتب التي تطبع على مطابع الحجر‏، ‏والدوريات الثقافية التي تطبع على مطابع الحروف المفردة‏، ‏لتلعب دوريات من هذا النوع أصدرها ـ في اسطنبول وبغداد والقاهرة وتونس ودمشق وبيروت‏- ‏رواد مثل بطرس البستاني ورفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وجرجي زيدان ويعقوب صروف وغيرهم ـ دورا بارزا في إثارة سؤال النهضة‏، ‏لتقود النخبة المثقفة العربية إلى التفاعل مع تيارات الحداثة التي كانت تموج في العالم آنذاك‏، ‏من نظرية النشوء والارتقاء إلى نظريات الوراثة‏، ‏ومن أفكار أوجست كونت إلى أفكار أنجلز وماركس‏، ‏ومن علوم الاجتماع والتاريخ والنفس والتربية‏، ‏إلى علوم الكيمياء والطبيعة والطب وبذرت بذور أفكار وتيارات اجتماعية وسياسية وفكرية احتاجت إلى سنوات من الجدل حتى أينعت فيما بعد‏، ‏من الدعوة إلى الديمقراطية القائمة على نظم دستورية وعلى التعددية الحزبية‏، ‏إلى الدعوة إلى تحرير المرأة وتعليمها وإتاحة فرص العمل أمامها‏، ‏ومن الدعوة إلى سيادة العقلية العلمية الصناعية إلى الدعوة إلى تجديد التراث الديني‏.‏
قبل أن نسأل‏: ‏هل هناك إمكانية لتحقيق تعاون ثقافي عربي؟ علينا أن نسأل أولا‏: ‏هل هناك ضرورة لتحقيق هذا التعاون؟ والإجابة في الحالتين هي‏: ‏نعم‏، ‏ليس فقط لأن شواهد التاريخ تؤكد أن الثقافة هي حجر الأساس في الحفاظ علي هوية الأمة‏، ‏ولكن ـ كذلك ـ لأنها تكاد تكون واحدا من عناصر قليلة للعمل العربي المشترك‏، ‏لا تزال ثابتة أمام عواصف الفرقة والشقاق التي تحيط به من كل جانب‏، ‏وبالتالي فإن إمكان تحقيق التعاون على جبهتها‏، ‏ربما تكون أقرب منالا من غيرها‏، ‏فضلا عن أن هذا التعاون يمكن أن يسهم في تهدئة العواصف التي تحيط بغيرها من الجبهات‏، ‏وفي التوصل إلى رؤية مشتركة لنظام عربي جديد‏، ‏بدلا من النظام الذي انتهى عمره الافتراضي‏.. ‏لكن الجزم بضرورة وإمكان ‏تحقيق هذا التعاون الثقافي العربي‏، ‏لا يعني تجاهل العقبات والصعوبات‏، ‏التي سوف تواجه هذا التعاون ويأتي معظمها كعرض جانبي من أعراض الوضع العام للنظام العربي‏، ‏ومن بينها تجاهل البعض لطبيعة التطور في أوضاع الدولة الوطنية ـ أو القطرية ـ العربية‏.‏ أولى هذه الصعوبات‏، ‏هي الخطأ في فهم مصطلح وحدة الثقافة العربية تأثرا بالخطأ الذي وقع فيه بعض منظري فكرة القومية العربية‏، ‏بأن الوحدة العربية‏، ‏هي نوع من الوحدة القدرية القسرية‏، ‏تتعالى ‏ـ وتتجاهل ـ الواقع‏، ‏وترفض الاعتراف بتنوعه‏، ‏وهي فكرة أثبتت المحاولات الفاشلة‏، ‏لتحقيق أشكال من الوحدة العربية الدستورية‏، ‏خطأها‏.‏ وقد آن الأوان‏، ‏لأن نعترف جميعا بأن الوحدة العربية ـ على كل صعيد ـ هي وحدة قائمة على الاعتراف بالتنوع‏، ‏وأن تنوع الثقافة العربية لا يتناقض مع وحدتها‏، ‏بل إن هذا التنوع‏، ‏على العكس من ذلك‏، ‏يساعد على إثرائها‏، ‏وهو ما يعني ـ في التطبيق ـ الاعتراف بأن لكل قطر عربي‏، ‏إسهامه النوعي في الثقافة العربية‏، ‏وأن لكل جماعة إثنية‏، ‏ولكل مجتمع جهوي‏، ‏ثقافته النوعية‏، ‏ومن هذه الروافد داخل الأقطار العربية‏، ‏تتكون وحدة الثقافة العربية‏، ‏وبالتالي فإن الاعتراف بالخصوصية الثقافية للأقطار والإثنيات واحترام حقها في التعبير عن ثقافتها‏، ‏شرط أساسي في أي تعاون عربي‏..‏ وفي السياق نفسه‏، ‏تأتي الصعوبة الثانية‏، ‏من الفهم الخاطئ لخصوصية الثقافة العربية على خريطة الثقافة الإنسانية‏، ‏وهو فهم يسعى أصحابه للترويج لفكرة‏، ‏أن الثقافة العربية هي ثقافة مستقلة بذاتها تماما‏، ‏عن غيرها من الثقافات الأخرى‏، ‏بل ويبالغ بعضهم في ذلك إلى الحد الذي يذهبون فيه‏، ‏إلى أنها أفضل وأكثر تقدما وأخلاقية من كل الثقافات‏، ‏وبصرف النظر عن أن الواقع يؤكد أن العرب المعاصرين يكادون يعيشون عالة على ثقافة الآخرين‏، ‏فإن الذين يقولون بذلك‏، ‏يتنازلون بقولهم‏، ‏عن حق العرب المشروع في كل إنجازات الثقافة الإنسانية المعاصرة‏، ‏ثم إنه ـ وهذا هو المهم ـ يقود كل تعاون ثقافي عربي إلى ‏طريق مسدود‏، ‏ينتهي بعزلة العرب‏، ‏عما تموج به ثقافات العالم المعاصر‏، ‏من تيارات قادته إلى التقدم عن العرب‏، ‏بل وإلى استذلالهم‏.

آن الأوان لأن نعترف جميعا‏، ‏بأن الثقافة الإنسانية‏، ‏هي وحدة تقوم على التنوع‏، ‏وأن الثقافة العربية هي أحد روافد الثقافة الإنسانية‏، ‏وأن كل تعاون عربي ثقافي‏، ‏لا جدوى من ورائه إذا انتهى ‏إلى عزل العرب عن العالم‏، ‏إذ ينبغي أن يكون الهدف منه‏،‏ هو تجديد وتحديث الثقافة العربية‏، ‏بالتفاعل مع كل ثقافات العالم‏.‏ تلك بعض ـ وليس كل ـ الصعوبات التي لو نجحنا في التغلب عليها‏، ‏فسوف نجد مئات من المشروعات الثقافية العملاقة‏، ‏التي يمكن للأقطار العربية‏، ‏أن تتعاون فيما بينها لإنجازها لتحافظ على شعرة معاوية بين أقطار الأمة‏، ‏إلى أن تتهيأ الظروف لإقامة نظام عربي جديد‏.‏

كاتب ومحلل سياسي بحريني