ستيفن روتش
في ما قد يُعَد محاولة يائسة أخيرة، بدأت البنوك المركزية تتخلى عن السيطرة الفعلية على الاقتصادات التي ائتُمِنَت على إدارتها. ففي البداية شهدنا خفض أسعار الفائدة إلى الصِفر، ثم التيسير الكمي، والآن أسعار الفائدة السلبية ــ محاولة عقيمة تُفضي إلى أخرى. ومع فشل المناورتين الأولى والثانية في اكتساب أي قدر معقول من الثِقَل الاقتصادي في ظِل التعافي الضعيف الذي بات مزمنا، لن يؤدي التحول إلى أسعار الفائدة السلبية إلا إلى تفاقم مخاطر عدم الاستقرار المالي وتمهيد الساحة للأزمة التالية.
ويمثل تبني أسعار الفائدة السلبية ــ في أوروبا أولاً عام 2014 ثم الآن في اليابان ــ نقطة تحول كبرى في عمل البنوك المركزية. في السابق كان التركيز على تعزيز الطلب الكلي ــ في المقام الأول عن طريق خفض تكاليف الاقتراض، ولكن أيضاً من خلال حفز تأثيرات الثروة الناجمة عن ارتفاع أسعار الأصول المالية. ولكن الآن، مع فرض العقوبات على الاحتياطيات الفائضة المتروكة على الودائع لدى البنوك المركزية، تدفع أسعار الفائدة السلبية التحفيز من خلال جانب العرض من المعادلة الائتمانية ــ وهو ما يحث البنوك فعلياً على تقديم قروض جديدة بصرف النظر عن الطلب على مثل هذه الأموال.
بيد أن هذا يغفل عن جوهر المشكلة التي تقض مضاجع عالَم ما بعد الأزمة. فكما زعم الخبير الاقتصادي ريتشارد كو من نومورا بشأن اليابان، لابد أن يكون التركيز على جانب الطلب من الاقتصادات المتضررة بالأزمة، حيث النمو معوق بفِعل متلازمة رفض الدين التي تأتي حتماً في أعقاب "ركود الميزانية العمومية".
وهذا التدهور ذو نطاق عالمي. فالمشكلة ليست في اليابان فحسب، حيث فشل زخم اقتصاد آبي القوي ظاهرياً في زحزحة الاقتصاد المتعثر بعيداً عن 24 عاماً من نمو الناتج المحلي المعدل تبعاً للتضخم بما لا يتجاوز 0.8%. بل هناك الولايات المتحدة أيضا، حيث يظل الطلب الاستهلاكي ــ الأساس المركزي للركود العظيم في أميركا ــ عالقاً عند مستنقع ثماني سنوات من النمو الحقيقي الذي لم يتجاوز 1.5% في المتوسط. والأحوال أشد سوءاً في منطقة اليورو، حيث كان متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 0.1% فقط طوال الفترة من 2008 إلى 2015.
ينبئنا كل هذا بأهمية البنوك المركزية في تحفيز الطلب في الاقتصادات حيث تواجه الميزانيات العمومية الأزمة والتي سقطت في "فخ السيولة" على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين. وكما لاحظ بول كروجمان قبل ما يقرب من العشرين عاما، فإن اليابان تجسد النسخة المعاصرة من هذه المعضلة. فعندما انفجرت فقاعة الأسهم والفقاعة العقارية في اليابان في أوائل التسعينيات، انهار نظام كيرتسو ــ "البنوك الرئيسية" والشركات غير المصرفية المرتبطة بها بشكل وثيق ــ تحت وطأة الاستدانة المفرطة.
بيد أن نفس الأمر كان صادقاً بالنسبة للمستهلكين الأميركيين المجهدين الذين يفتقرون إلى المدخرات ــ ناهيك عن منطقة اليورو التي كانت في الأساس قائمة على توقعات النمو المبالغ في تضخيمها في الاقتصادات الواقعة على أطرافها ــ البرتغال وإيطاليا وأيرلندا واليونان وأسبانيا. وفي كل هذه الحالات، سَبَق إصلاح الميزانيات العمومية تجدد الطلب الكلي، وكان التحفيز النقدي غير فعّال إلى حد كبير في إشعال شرارة التعافي الدوري الكلاسيكي.
ولعل هذا الفشل الأكبر الذي واجه العمل المصرفي المركزي الحديث. ورغم هذا، يظل الإنكار عميقا. ويُعَد خطاب "إنجاز المهمة" الذي القاه رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ألان جرينسبان في أوائل عام 2004 مثالاً مهما في هذا الصدد. فقد نُسِب الفضل إلى جرينسبان في استخدام السياسة النقدية المفرطة في التساهل لتنظيف الفوضى التي خلفها انفجار فقاعة الدوت كوم عام 2000، في حين أصر على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لابد أن يشعر بالارتياح لأنه لم يعتمد على جنون المضاربة في أواخر التسعينيات.
وقد ترك هذا خليفة جرينسبان على منحدر زَلِق. فبعد نفاد الذخيرة بسرعة عندما اندلعت أزمة الركود العظيم في أواخر 2008، تبنى رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي الدواء المعجزة الجديد المتمثل في التيسير الكمي ــ الترياق القوي للأسواق التي تعيش أزمة طاحنة ولكنه في نهاية المطاف أداة غير فعّالة لسد الفجوة في ميزانيات المستهلكين وتحفيز القدر الكافي من انتعاش الطلب الكلي.
ويثير التحول إلى أسعار الفائدة السلبية قدراً أعظم من المشاكل. ففي ظل استمرار ركود الطلب الكلي في مختلف أنحاء العالم، تنشأ مجموعة جديدة من المخاطر من خلال معاقبة البنوك على عدم تقديمها لقروض جديدة. وهذا هو المعادل الوظيفي لتشجيع زيادة كبيرة أخرى في "إقراض الموتى الأحياء" ــ القروض غير الاقتصادية التي حصل عليها المقترضون اليابانيون في تسعينيات القرن العشرين. لقد أصبح العمل المصرفي المركزي الذي ضل السبيل في أزمة حقيقية الآن. فهل يأتي الدور قريباً على الاقتصاد العالمي؟
ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس في جامعة ييل،