«كذَّابين الزفة»

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٤/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
«كذَّابين الزفة»

جمال زويد

هوس الـ(الميديا) وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، وتنامي الاهتمام أو الالتفاف حولها، وكذلك تعاظم شأنها وتأثيراتها في ظل أوضاع وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية متزايدة في صعوباتها وتعقيداتها وأيضاً كثرتها؛ أدّت في مجملها إلى نشوء حالات كانت فيما مضى من الزمان طارئة على مجال الإعلام أو بعيدة عن مواقع التعبير وإبداء الرأي ومنصّات التوجيه، باعتبار أن تلك المهام -الإعلام والتوجيه والتعبير عن الآراء- فضاءات واسعة ونظيفة، يرتادها أو يلجها المخلصون المعروفون في دنيا الناس بعلوّهم وصلابة فكرهم ومواقفهم، وشجاعتهم وصمودهم على قناعاتهم أو الحق الذي يعتقدون به. وكان لهم قراء ومتابعون كُثُر -بمقاييس ذاك الزمان- يرون في هؤلاء المفكرين والكتاب والمبدعين نموذجًا للصدق والإخلاص ومحلًا لنقاء المواقف وصفاء التوجهات. وذلك على بساطة حياتهم ومعيشتهم وصبرهم على صعوباتها أو حتى الإيذاء بسبب آرائهم وتعبيرهم.

تلك المهـام (التوعوية والتبصيرية والتثقيفية ) فيما مضى مــن الزمان؛ لا تقل في مكانتها ومقدار احترام الناس لها عن العلماء والمعلمين وما شابهها من وظائف كان يجري تبجيلها وتقديرها والنظر إلى أصحابها كقادة رأي وتوجيه، وحاملي رايات فكر وعلم، وحماة حرية التعبير، مبرأة أيديهم عن السرقات، ونظيفة ذممهم من الرشاوى والعطيّات، وبعيدين عــن إغــراءات ووسائل شراء علمهم وفكرهم وأقلامهم وكتاباتهم، ويبقون ثابتين على مبادئهم ومواقفهم رافضين الحظوة والمناصب والعطايا على تنوّعها حتى لو تدنّى فقرهم وتعاظم عوزهم وحاجتهم.

لكن الآن تغيّرت تلك الصورة، ولم يبق منها إلاّ ذكرياتها، وشيء من تناتيشها، والقليلون من أصحاب ذاك العبق الأثير الذين باتوا الآن يتحسّرون على مآل الكلمة الصادقة ومصير الأفكار والمواقف المخلصة.
فقد انقلبت تلك الصورة إلى مـــا يشبه سوقًا فيه بيع وشراء، وفـــرص تكسّب وغنـــى، ومحطات استرزاق ونيل هدايا، ضاع فيها الضميـــر واختفـــى الإخلاص والثبات، وحلّ النفاق والكذب والتملّق، وعلا صوت التطبيل وتعاظم دوْر التجهيل.
وصار الكثير من أصحاب هذه المهام (مهام العلماء والمفكرين والكتاب والمثقفين و... إلخ) من سقْط القوْم، بعدما كانت تلك الأدوار والمهام قامات وهامات عالية يُشار إليهــا بالبنان! وأصبحت أعداد ليست قليلة حالهم فـــي قيادة وصناعة الـــرأي العـــام وتوجيهه كحالة (كذّابين الزفّة)!
(كذّابين الزفّة) تسمية راجت أو اقترنت بفرقة مصرية قديمة، فرقة (حسب الله) الموسيقية التي كانت تتميز بشيئيــن: أولهمــا: أن غالب المنضوين فيها شتـــات ومرفوضون، لم يجدوا لهم فرقًا موسيقية تقبلهم وتشغلهم، بسبـــب رداءة عزفهم أو عدم إلمامهم بمتطلباته فتجمعـــوا لعمـــل فرقــة كل معزوفاتها نشاز، ولكنها تضيع بسبب الصــوت العالي للآلات النحاسية الموسيقية والطبل الذي كانوا يحرصون على استخدامه، ويملؤون به المكان ضجيجًا وصخبًا. حتى صارت موسيقاهم معروفة بـ«مزيكة حسب الله» وأصبحت من الأمثــال والنكات الرائجة عن الضجيج الفارغ، إذ يعزفون (أي حاجة).
وثاني ميزات هذه الفرقـــة أنها أيضاً كانت تمارس الاحتيال، وتدلّس لأجل المال أمام الجمهور عــن طريق زيادة عـــدد أعضـــاء الفـــرقة. فكان العـــازفون الأصليون خمسة لكنها تضيف إليهم ضعف عددهم، تلبسهم ذات لبــاس العــازفين الفعليين، وتجعلهم يمسكوا بالآلات النحاسية نفسهــا، ويتظاهرون بالعـــزف والانشغال بـ(النوتات) ويحرصـــون على أن يكـــونوا في أعلى درجات الجــدّ والحمــــاس والإخلاص، وقـــد يتمايلون بأجسامهم وهم يمشــون علــى إيقاعهــا حتى تكتمل فصول التمثيلية، بينما هم في واقع الأمر (كذابين الزفة) أو مجرّد (لابسين مزيكة) لا علاقة لهم بالمهنة، وليس لهم مــن هـــدف أو وظيفــة سوى مجرّد (أكل عِيش) لأن الفرقـــة بهــؤلاء الزيـــادة (كذابيـــن الـــزفة) ستأخذ حسابها على أساس (10) أفراد وليس الخمسة الحقيقيين! فما أشبه الليلة بالبارحة، تختلف الوظائف لكن تبقى المسميات!!

كاتب بحريني