نبكي من أجلك يا فنزويلا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٠/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٤٠ ص
نبكي من أجلك يا فنزويلا

خوان مانويل سانتوس

حتى وقت قريب، كانت فنزويلا ــ مسقط رأس «المحرر» سيمون بوليفار ــ دولة حرة وثرية نوعًا ما، وكانت تتباهى بأكبر احتياطيات مؤكدة من النفط في العالم وشعب رائع. وقد اجتذبت الملايين من المهاجرين الكولومبيين الساعين إلى الهروب من عنف الحرب ضد العصابات المسلحة التابعة للقوات المسلحة الثورية في كولومبيا (FARC). واليوم، تنعكس الأدوار: ففي حين تنتهي حرب كولومبيا التي دامت خمسين عامًا ضد القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، تنهار فنزويلا اقتصاديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا.

كولومبيا هي البلد الأكثر عُرضة للخطر في الأزمة التي تبتلي جارتنا وشقيقة جمهوريتنا. والواقع أن بلدينا تجمع بينهما كل الروابط الممكنة: التاريخ، والثقافة، والاقتصاد، والجغرافيا، فضلا عن أكثر من 1300 ميل من الحدود المشتركة.

ونحن في كولومبيا نأمل أن تكون فنزويلا مزدهرة دوما. ولهذا السبب، نبذل كل ما في وسعنا ــ جنبا إلى جنب مع العديد من الدول الأخرى وقادة العالم، بما في ذلك بابا الفاتيكان فرانسيس ذاته ــ لتشجيع حكومة فنزويلا، بقيادة الرئيس نيكولاس مادورو، والمعارضة للتوصل إلى حل إيجابي للأزمة.
تمتد جذور هذه الأزمة إلى أفكار الراحل هوجو شافيز، الذي أصبح رئيسا لفنزويلا في العام 1999. فعند انتخابه، كان شافيز يتمتع بدعم قوي، بما في ذلك قدر كبير من قطاع الأعمال والتجارة، وكانت المعارضة التي تواجهه ضئيلة. ولكن في ذلك الحين ساورتني الشكوك حول «ثورته البوليفارية» المزعومة ــ وأعربت عن تلك الشكوك. والواقع أنني كصحافي في ذلك الوقت أصبحت واحدا من أشد المنتقدين لشافيز في كولومبيا.
ولكن عندما انتُخِبت رئيسا لكولومبيا في العام 2010، حولت نهجي في التعامل معه. ذلك أن تولي مقاليد الأمور في دولة ما، وهو ما يشبه كثيرا إنجاب أول طفل لك، يعمل على تعظيم الشعور بالمسؤولية. وكان من مصلحة بلدي تحسين العلاقات مع جيراننا
لم تكن إعادة العلاقات مع فنزويلا تعني بالضرورة أن شافيز وأنا يجب أن نتفق في الرؤى ووجهات النظر؛ إذ كان ذلك مستحيلًا. بل كان لزاما علينا ببساطة أن نحترم الخلافات بيننا، في حين نقوم بما يخدم مصالح شعبينا على أفضل وجه. وبفضل حس التاريخ المشترك والغرض، ناهيك عن القليل من الفكاهة والمرح، تمكننا من القيام بذلك على وجه التحديد، مع تحول علاقاتنا الشخصية تدريجيا من العداء إلى الود.
عندما التقى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف للمرة الأولى لمناقشة خفض ترسانتيهما النووية، كان صريحا. فهو لم يكن ليصبح شيوعيًا، ولم يتوقع أن يحتضن جورباتشوف الرأسمالية. ورغم هذا، استنتج ريجان أنهما لابد أن يعملا معًا من أجل تحقيق هدف أسمى: حماية العالم من كارثة نووية. وهذا هو ما فعله الرجلان بالضبط.
عندما التقيت شافيز أول مرة، اقترحت نهجًا مماثلا. فلم أكن لأتحول إلى ثوري بوليفاري، وهو لم يكن من المرجح أن يُصبِح ديمقراطيا ليبراليا. ولكننا أيضا كنا نسعى إلى تحقيق هدف أسمى: العمل نحو إرساء السلام في كولومبيا، وبالتالي جلب الفوائد للمنطقة بالكامل. وهذا هو ما قمنا به على وجه التحديد.
كان من المفيد أن يتحلى شافيز بقدر عظيم من حس الدعابة والمرح. فكنا لا نكف عن تبادل المزاح بشأن خلافاتنا. قلت له إن ثورته البوليفارية سوف تفشل وتجعل بوليفار ذاته يبدو في صورة سيئة. وكان يقول لي إن سانتاندير، زعيم الاستقلال العظيم الآخر في أمريكا اللاتينية، كان نيوليبراليا من أنصار حكم القِلة، وإنني مثله. ولكن مثلما فعل ريجان وجورباتشوف، قررنا عدم انتقاد النماذج المفضلة لدى كل منا ــ في حالتنا، اشتراكية القرن الحادي والعشرين في مقابل الطريق الثالث ــ وتركنا التاريخ يصدر حكمه علينا بدلا من ذلك. وانطلاقا من هذا التفاهم المتبادل، ظل الود بيننا قائما إلى أن توفي شافيز في العام 2013.
الآن تكلم التاريخ أخيرًا، وبات الحكم مبرما قاطعا. فكان النمو الذي حققته كولومبيا أعلى كثيرا من المتوسط في أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة، ولا يتجاوز التضخم 4%. وعلاوة على ذلك، أصبحت كولومبيا مقصدا متزايد الجاذبية للاستثمار، كما قطعت أشواطا بعيدة في الحد من الفقر، وخلق فرص العمل، وتطوير البنية الأساسية، وإصلاح التعليم.
في الوقت نفسه، انكمش اقتصاد فنزويلا بما يقرب من 40% تحت وطأة الديون الضخمة وأعلى معدل تضخم في العالم. والآن أصبح نحو 82% من الفنزويليين فقراء. كما تعاني فنزويلا من نُدرة مزمنة في العملات الأجنبية، والأدوية، والمواد الغذائية. وانتشر سوء التغذية. وتشير التقارير إلى ارتفاع معدل الوفيات بين الأمهات في المستشفيات إلى خمسة أمثاله في العام 2016، في حين ارتفع معدل الوفيات بين الرُضَّع بنحو مائة ضعف. ومن الواضح أن إغراء الهجرة بحثا عن حياة أفضل في أماكن أخرى آخذ في الازدياد.
وقد اعتبر مادورو، الخليفة الذي انتقاه شافيز، كولومبيا مسؤولة عن كارثة فنزويلا الاقتصادية. وعندما ذكرت أنني حذرت شافيز قبل سبع سنوات من فشل برنامجه الاقتصادي، أبدى مادورو انزعاجه الشديد. ومع ذلك فإن الفشل شديد الوضوح.
حتى وفاة شافيز، كانت الأشكال الديمقراطية محفوظة. وفي مبدأ الأمر، كان من الممكن أن يُقال نفس الشيء عن مادورو، الذي اعترف كارها لبعض الوقت على الأقل بالأغلبية التشريعية للمعارضة بعد انتخابات العام 2015. ولكن بعد ذلك تلقت المؤسسات الديمقراطية في فنزويلا الضربة تلو الأخرى ــ وهي العملية التي توجت بالقرار الصادر في الشهر الفائت والذي يقضي بتشكيل جمعية تأسيسية غير شرعية لإعادة كتابة الدستور، بهدف ترسيخ نظام مادورو.
أثار التدهور الأخير الذي حل بالديمقراطية في فنزويلا انتقادات متزايدة القسوة. ويدعوني مادورو خائنا، لأن كولومبيا تعارض الانتهاكات المنتشرة لحقوق الإنسان والحقوق الديمقراطية في بلده. ولعله تصور أنه بمساعدتنا في عملية السلام مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، حصل على حليف أعمى ــ حليف على استعداد للتغاضي عن تصرفاته والعمل كعنصر ملحق بأساليبه المستعلية.
بيد أن الواقعية السياسية في العلاقات الدولية لا تمتد إلى هذا الحد. فسوف أظل ممتنا دائما لمساهمات شافيز ومادورو في إحلال السلام في بلدي. غير أني لا أستطيع أبدا أن أتقبل قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان في أي مكان. بل على العكس من ذلك، أنا ملتزم في مواجهة الدكتاتورية برفع صوتي أعلى وأعلى.
وأنا لست وحدي. إذ يتعين على تلك الدول في أمريكا اللاتينية وخارجها التي تلتزم بالدفاع عن السلام والحرية أن تواصل، بحزم متزايد، جهود إعادة بناء الديمقراطية السريعة السلمية في دولة فنزويلا العظيمة. ولا يجوز لنا السماح لدكتاتورية جديدة بإدامة بقائها في وسط أمريكا اللاتينية ــ القارة التي حققت مؤخرا السلام الذي طال انتظاره. وإلى أن يحدث ذلك فنحن نبكي من أجلك يا فنزويلا.

رئيس جمهورية كولومبيا والفائز
بجائزة نوبل للسلام 2016.