ومن الحب ما قتل

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٠/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٣٥ ص
ومن الحب ما قتل

أحمد المرشد

في جلسة فلسفية، مع الأصدقاء أو هكذا تخيلناها جلسة صفاء ذهني، أعيد وأكرر «صفاء ذهني» وليس «عصف ذهني» حتى لا تتداخل المفاهيم، فالصفاء بعيد تمامًا عن العصف، رغم التشابه في الحروف تقريبًا، ولكن الصفاء الذهني غاية يتمنى الكثير بلوغها، في حين أن «العصف» وسيلة وربما لا تفيد في الأمر شيئًا سوى الصداع والإرهاق، وأحيانا يكون المرء في غنى عن التفكير، أو يكون مزاجه النفسي غير مؤهل في التفكير فيما هو عاصف، وأن كل ما يريده أن ينعم بساعة صفاء، وهكذا كان وصف حالتنا في جلستنا التي سأكشف فحواها.

في البداية، بادر أحد الأصدقاء بسؤالنا جميعًا، أقول جميعا لأنه لم يحدد أحدًا معينًا للإجابة، وكأنه يريد منا المشاركة في الإجابة كل بمعرفته وخبرته المتراكمة على مر السنوات، وكان شرطنا ألا نسمح لأنفسنا بالتطرق إلى عالم السياسة والاقتصاد، وأن نكتفي بتبادل الأحاديث عن موضوعات تقترب من أحاسيس الإنسان، حلوها ومرها، قديمها وحديثها، ولم نحدد طبيعة هذه الأحاسيس وتركنا الأمور على سجيتها، ليمر الوقت وقد تمكنت رغم تشتت المناقشات أحيانا، من الإلمام ببعض مما سأكتبه.

أعود لسؤال صديقنا، وكان مباغتا، فجميعنا لم نتوقع منه أن يتألم هكذا لأنه باغتنا بما سيرويه، ربما لأنه أصلًا إنسان تميل شخصيته إلى المرح ويتمتع بحس فكاهي عالٍ وخفة روح وسرعة بديهة، وهو غالبًا ما يحول جلساتنا إذا كانت غما إلى ضحك وسرور.. استغربنا جميعًا، فما حكايته الليلة نراه متجهما، شاردا، يكاد يكون خارج عالمنا وهو الجالس معنا بجسده فقط، إلى أن حانت له الفرصة ليسألنا جميعا: تدرون متى يموت الشخص منا وهو حي؟
أصابني سؤال الصديق بذهول في البداية، رغم أنني كنت أعلم بعضًا من ظروفه التي دفعته للشرود، ولكني لم أتوقع مضمون ما قاله، لأنه صعب عليه أن يكون السؤال عنه هو وقد ألقاه علينا بصيغة الغائب ولكنه يقصد حاله. أتراه يتألم من موقف ما جعله يشعر وكأنه ميت!! لا أدري بالضبط، ولكني أصبت في إجابتي وكنت أول من بادر بالرد عليه لعله يهدأ ويرضي بما سأقوله، فقلت له ولجميع الأصدقاء: «ربما نموت ونحن أحياء عندما نتعرض لغدر أعز الناس لقلوبنا».
ولا أدري لماذا ركزت بصري علي صديقنا وأنا أتكلم عن رأيي، ولم ألتفت للآخرين، وهنا أدركت أنني قد أصبت كبد الحقيقة، أو على الأقل تجولت بداخله واستكشفت ما يدور في نفسيته من محن وآلام. وفي لحظة، حاول أن يبعد بصره عني، ولكني عاودت التركيز علي ملامح وجهه، كي اتبين هل هو غاضب أم لا؟ حزين؟ يشعر باكتئاب؟..
أجابتي جرت وراءها أقوال وتعليقات كثيرة، رغم أن معظمها لم يخرج عما ذكرته توا، مثل: «يوم يجرحك صديق لكي يشرح صدور الحضور..يوم يخونك شخص وهو الذي كان مثالًا للوفاء لك.. يوم يتخلى عنك أخوك عندما تحتاجه ويكون طلبك عنده..يوم يتغير وضعك الوظيفي لتتأكد أن الجميع تقرب منك من أجل مصلحته فقط لا غير..يوم تشعر إنك يتيم وأنت بين أهلك وأحبابك..يوم تحتاج لمساعدة شخص ولكن الكل يتخلى عنك بدلا من الوقوف بجانبك كما فعلت معهم طوال عمرك».
ربما أكون أجملت معظم ما قيل من ردود، وربما تركزت في عدم الوفاء، وانعدام الثقة ولكني رأيت من واجبي أن أزيد من البيت شعرا خلال تلك الدردشة، وقلت إننا ربما نشعر بالموت يوم يُغيب الموت عنا أقرب الناس لنا وكنا نود لو رأيناه لمجرد لحظة، حتى لا نشعر بالندم مدى الحياة لعدم رؤيته وقد كان بإمكاننا ذلك، وهنا لا يعني الموت أن ندفن في الإلحاد، ولكننا سنعيش وكأننا هؤلاء، صم، بكم، عمي، بلا روح.

لا تتخيلوا أن الحديث انتهى أو توصلنا لنتائج للحوار، لا..لأن صديقنا صاحب السؤال في الجلسة باغتنا برواية لم نكن نعلمها عنه، حيث سرد لنا قصته المؤلمة، وهي حقا مؤلمة وأشعرتنا بالحزن من أجله وتمنينا لو أمدنا المولى عز وجل بروح إيجابية إضافية لنمحو عنه الأحزان والاكتئاب. فصديقنا مر بقصة حب ناقصة ولم تكتمل أركانها، وربما كانت هي سبب أحزانه لأنه ترك لنفسه المجال بالوقوع في الحب في وقت هو نفسه غير مهيأ للحب فيه عاطفيًا واجتماعيًا ونفسيًا وماليًا. ولكنه ترك لقلبه وعواطفه العنان لتجربة خرج منها وكأنه ميت.
انتظرنا برهة حتى نعطي صديقنا الفرصة لكي يحكي كل ما يمر به من هموم، ولشدت تعجبنا رأيناه علي حالة غير ما عاهدناه عليه من قبل، فمن ضحك ودعابات إلى انطواء شديد، وكأنه يحمل جبالًا من الأحزان، فصديقنا الحزين وقع في الحب، أحب وتعلق قلبه بفتاة، ولم يتوقف على هذا لأنه جازف وصارح فتاته بحبه وتعلقه بها وولهه بالقرب منها ورغبته في التقرب أكثر. ولكن الحب ظلمه وبعد أن شعر بأن كل الدنيا ترحب به وتفرح له، أحس فجأة بأن هذه الدنيا تتخلي عنه وقد قررت إنهاء حياته، أي سحبت روحه منه وهي حبه لتتركه وكأنه يعيش مثل الأموات.. شعر صديقنا بأنه كمن امتلك الدنيا كلها، غربها وشرقها وشمالها وجنوبها، وفجأة كانت الدنيا التي منحته كل جوانحها من لحظة قررت سحب كل هذه الامتيازات عنه، لتعيده إنسانا كما دخلها ولكن كـ «ميت».

تعجب جميعنا على حال الصديق، ولكننا حمدنا المولى عز وجل أن تهيأت جلستنا التي تحدثت عنها، ليخرج فيها عن صمته ويحكي لنا ما يمر به من هموم ولنكون سببًا في تجاوزه محنته، تلك المحنة التي سلبته حياته وضحكته وفرحته، أو سلبته من كل ما هو حلو في هذه الحياة، حتى أنه تجاهل عمله وأسرته الكبيرة وأسرته الصغيرة، لأني نسيت أن أضيف معلومة في القصة وهي أن صديقنا متزوج وله طفلان، وزوجته ابنة عمه الذي رباه وهو صغير بعد وفاة والده. وبالتالي، وعلى حد علمنا، أن مسألة زواجه من ابنة عمه خضعت لأحكام رد الجميل ولم يكن الزواج نابعا عن حب، فكانت كل الأمور عادية وتسير وفق ما هو مألوف، وبالتالي أيضا لم ينشغل القلب بحبيب أو يتلهف عليه ويتمنى لو مرت الساعات والدقائق بسرعة ليرى حبيبته ليس في الموعد ولكن قبل الموعد، وفجأة وجد صديقنا قلبه يحمل حبا لم يشعر به من قبل ومشاعر لم يألفها وأحاديث لم يكن يتخيل أن ينطق بها لسانه.
لقد أشركتكم معي في تفاصيل الجلسة، من صفاء ذهني الى حب وفراق، ولعلي أتوقف هنا برهة عند كلمة «فراق» فصديقنا بعد أن انتهى من سرد جزء كبير من حكايته، فات عليه معلومة لم يفض لنا بها، ولكننا خرجنا بها نتيجة تحليلنا لكل ما ذكره، فالإنسانة التي تعلق قلبه بها لم تتركه وتتخلى عنه كما فهمنا في البداية، ولكنها أبت أن تواصل المشوار لظروف اتفقنا ان نتطرق إليها في جلسة أخرى نتعرف خلالها لأسباب الفراق والخيانة والهجران وكيف يموت الإنسان وهو حي وهو ما أسلفت بالحديث عنه وعن أسبابه في هذه الحياة المليئة بالمتناقضات
!. لقد عاش صديقنا وكأنه ميت، مطعونا في قلبه، هجرته حبيبته بدون كلمة وداع وهو الذي فكر في الانتحار لكي لا يعيش يوما بدونها، أحبها من أعماق قلبه، وهي حددت موعد نهاية الحب، هو طلب منها كما طلب عبد الحليم حافظ أنه تعلمه فن العوم حتى لا يغرق، ولكنها أغرقته بدون حتى أن ترمي له بطوق نجاة. صديقنا الذي نتحدث عنه لا يعرف فن العوم وتركته حبيبته يغرق في تجربة حبه ولم تأخذ بيده كي يشفي من حبها، وتركته يتنفس تحت الماء ليغرق في هواها وهي لا تكترث بما يعانيه رغم علمها أنه لا يعرف فن العوم.

كاتب بحريني