سياسات فائض ألمانيا الخارجي

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٩/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
سياسات فائض ألمانيا الخارجي

كليمنس فيوست

تركيز الجدال بشأن اختلالات الاقتصاد الكلي العالمي على فائض الحساب الجاري لألمانيا وسياستها الاقتصادية. فرغم الحيوية التي يتسم بها المحرك الاقتصادي الألماني، والدور الذي يلعبه في تحفيز النمو والحفاظ على الاستقرار في منطقة اليورو، تتنامى الانتقادات المتعلقة بالفائض الخارجي الهائل للدولة. والأمر كما لخصته مجلة الإيكونوميست مؤخرًا، يتمثل في أن ألمانيا «تدخر كثيرًا جدًا وتنفق قليلًا جدًا»، الأمر الذي يجعلها «مدافعا غير مقنع عن التجارة الحرة».

ما المطلوب من ألمانيا إذا؟ تعتمد إجابة هذا السؤال على ما إذا كان توجيه عملية صنع القرار يقوم على اعتبارات اقتصادية أو سياسية.

لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد سبب اقتصادي قهري يحمل ألمانيا على تغيير أي شيء، وإن كان هناك من سبب يجعلها تغير مسارها، فسيكون ذلك لأسباب سياسية في المقام الأول.
وأرى أن الانتقاد الأول ــ القائل بأن إنفاق ألمانيا المحلي لم يتماشى مع احتياجاتها الاستثمارية ــ محض خرافة. فعادة نجد أن التقارير الصحفية بشأن المباني الضعيفة المشيدة دون اتقان والجسور المتهالكة تُقدم كدليل على أن التقتير في الإنفاق قد تجاوز حدود العقل. لكن الأرقام تخبرنا بقصة مختلفة. على سبيل المثال، بلغ متوسط فائض الحساب الجاري في ألمانيا بين عامي 2001 و2005 نحو 2.4 % من الناتج المحلي الإجمالي، أما متوسط الاستثمار المحلي فقارب 20 % من الناتج المحلي الإجمالي. وخلال الأعوام الخمسة المنتهية في 2016، صعد الفائض إلى 3,7 % من الناتج المحلي الإجمالي، لكن ظل الاستثمار المحلي ثابتًا عند نسبة 20 % من الناتج المحلي الإجمالي.
أما الارتفاع المفاجئ في الفائض فله سبب واحد وهو: الحيطة، إذ تواجه ألمانيا احتمالية نشوء أزمة مالية مع تزايد أعمار سكانها وتقلص قوة العمل بها. ومن ثم ينبغي لها أن تستعد لتراجع متوقع في إسهامات مواطنيها في رواتب التقاعد (المعاشات) فضلا عن نمو تكاليف الرعاية الصحية. فبينما كانت نسبة عجز القطاع العام في بدايات العقد الفائت 3% من الناتج المحلي الإجمالي، نجد ألمانيا اليوم تمتلك فائضا صغيرا، مما يعد رد فعل معقولا ومثاليا، تماما كالزيادة في مدخرات التقاعد الخاص. بل إن استثمار المدخرات الإضافية في الخارج حاليا يعتبر أكثر منطقية، لأن تقدم أعمار السكان في ألمانيا يحد من فرص الاستثمار المجدي في الداخل، بينما الأسواق الأخرى تنمو بوتيرة أسرع.
أما النقطة الثانية التي أثارها المنتقدون، وهي بخل ألمانيا فيما يتعلق بالشراء العالمي، فهي أكثر تعقيدا. فمما لا شك فيه أن ألمانيا تستطيع مساعدة اقتصادات منطقة اليورو التي تعاني من أزمات إذا اشترت المزيد من بضائع هذه الاقتصادات وخدماتها، لكن زيادة الواردات وخفض الفائض قد يرفع أيضا أسعار الفائدة، وهو ما سيضر بالدول المثقلة بالديون.

السبب الأول: اهتمام ألمانيا القوي بالتعاون الدولي في مجالات كثيرة، بداية من الهجرة حتى أمن الطاقة. وقد يؤدي تقديم تنازلات بشأن سياسة الاقتصاد الكلي إلى تعاون في مجالات أخرى. وبالنسبة لميركل، قد يكون نهج «ألمانيا أولا»، الشبيه باستراتيجية «أمريكا أولا» التي يتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ذا مردود عكسي.

السبب الثاني: نادرًا ما ينظر المدينون إلى دائنيهم بتفهم، فقد يفضي وضع ألمانيا الدائن مقارنة بالدول الأخرى إلى نزاعات سياسية، لما لدى المدينين من دوافع لتحاشي السداد.
السبب الثالث: وفقا لآلية رصد اختلالات الاقتصاد الكلي التي وضعها الاتحاد الأوروبي لمنع أي سياسات اقتصادية مخلة بالتوازن من جانب دول فردية، فإن الدول التي تتمتع بفائض في الحساب الجاري يتجاوز 6 % من الناتج المحلي الإجمالي مطالبة بتعديل سياساتها. ولا يمكن لألمانيا أن تتوقع التزام الدول الأخرى بقواعد الاتحاد الأوروبي ما دامت هي ذاتها تتجاهلها.
ثمة خيار آخر وهو زيادة الإنفاق العام في المشتريات والبنية التحتية العسكرية، رغم ما تتسم به المشتريات العسكرية من كونها عملية طويلة الأجل، كما أن زيادة استثمارات البنية الأساسية قد يكون أمرا صعبا، لا سيما في وقت تعمل فيه صناعة التشييد والبناء بكامل طاقتها.
لكن فيما يتعلق بقضية معالجة اختلالات الاقتصاد الكلي العالمي، فإن مثل هذه التدابير ستسبب إحباطا لدى منتقدي ألمانيا، إذ يبلغ نصيب ألمانيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي 4.4 %، ومن ثم فإن أي خفض في فائضها الخارجي، ولو حتى بمقدار 2.5 نقطة مئوية من المستوى الحالي البالغ 8.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، سيكون تأثيره على الاقتصاد العالمي بسيطا. وأي زيادة في الطلب تعادل 5,2 % من الناتج المحلي الإجمالي سيكون من شأنها تعزيز الطلب العالمي بنسبة لا تتجاوز 0.1 %. وسيفقد العالم حينها كبش فداء لأزماته الاقتصادية، لكن شيئا لن يتغير.

رئيس معهد ايفو للبحوث الاقتصادية

وأستاذ الاقتصاد في جامعة ميونيخ