الشتات اليمني

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٠/يوليو/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
الشتات اليمني

علي ناجي الرعوي

بعد 28 شهرا من وقوع أول غارة جوية على مطار صنعاء إيذانا ببدء ما سمي (عاصفة الحزم) عملياتها الحربية في أراضي الجمهورية اليمنية بغرض استعادة الحكم للسلطة الشرعية ممثلة بالرئيس هادي وإنهاء كما أعلن انقلاب جماعة (أنصار الله) على المسار التوافقي الحاكم لليمن خلال المرحلة الانتقالية التي شهدها بعد 2011 لا تبدو الصورة مبشرة أو تبعث على الاطمئنان أو أي شكل من أشكال التفاؤل بإمكانية خروج هذا البلد الفقير عما قريب من النفق المظلم الذي سقط فيه. فقد أفرزت الحرب المستعرة في أراضيه منذ مارس 2015 واقعا جديدا شديد التعقيد والإحباط ويمنا مختلفا عن اليمن الذي كان قائما بكل سيئاته قبل هذه الحرب.. فالبلد الذي نتحدث عنه اليوم أصبح بالمعنى العام مجرد خزانا لكل الظواهر القاتلة من فوضى وإرهاب وتشظي وجوع وكوليرا وغيرها من الموجات المدمرة والتي تزدهر في ظلها سيرورة العنف والفلتان الأمني وأسواق السلاح وتجارة الموت، وكأنما اليمنيون باتوا يشكلون فائضا على البشرية ويجب التخلص منهم قتلا أو جوعا أو مرضا أو الثلاثة معا.

بعد 28 شهرا من انطلاق (عاصفة الحزم) يبدو اليمن في مظهره الأخير مفتتا إلى مباضع جغرافية عدة وجماعات عدة لكل منها خطابها ومشروعها الأيديولوجي وكذا تعريفاتها المناطقية والجهوية والمذهبية والطائفية فقد أدت تداعيات الحرب ليس فقط إلى تفكيك سلطة الدولة ومؤسساتها وإنهاء فاعليتها في المجتمع وإنما إلى استنفار مكونات المجتمع ضد بعضها البعض بعد أن جرى توظيف البعد الطائفي والمذهبي بشكل انتهازي ضمن أبعاد الصراع في هذه الحرب دون النظر إلى مخاطر ذلك التوظيف الذي استفادت منه لاحقا عناصر القاعدة وتنظيم (داعش) في توطيد أقدامها في أكثر من مكان، وقد لا يطول بنا الأمد حتى يظهر علينا وحش إرهابي يعيد إلى السطح تنظيم داعش الإرهابي بلبوس جديدة في جبال اليمن بعد أن تعرض ذلك التنظيم لضربات موجعة في الأيام الأخيرة في الموصل العراقية وبعض المناطق السورية خصوصا وهو من وضع من وقت مبكر اليمن كبديل محتمل عن منطقة الشام ولذلك عمد إلى إرسال عناصره من الجيل الثاني إلى اليمن عامي 2015-2016 للتهيئة لهذا الانتقال إذا ما اضطر للهروب من العراق وسوريا.

يتردد في الإعلام منذ أن أرسى ميكافيلي قاعدته البغيضة (الغاية تبرر الوسيلة) أن السياسة بلا أخلاق ولا مبادئ إلا أنها في اليمن أيضا بلا قلب ولا مشاعر إنسانية ويتجسد حضور هذه المفاهيم من خلال نزوع بعض الأطراف المنخرطة في حرب اليمن وكارثتها إلى تعميق جذور الفوضى وجعلها قاعدة أساسية في الواقع لتغدو مصيبة اليمن الكبرى ليست في أرقام الضحايا والمدن المدمرة ولكن في هذه الفوضى التي أضحت هي النشاط الرائج في معظم مناطق البلاد وقد يكون من المثير حقا أنه وفي الوقت التي تواصل فيه (عاصفة الحزم) تصفية حساباتها مع من تعتبرهم خصوما في الجزء الشمالي من اليمن فإنها التي تركت المناطق التي قامت بتحريرها من قبضة أولئك الخصوم في الجنوب تهيمن عليها القوى المدفوعة بالرغبة إلى الانفصال عن الشمال مع أن التماهي مع مشروع تلك القوى تحت أي اعتقاد أو مصلحة من شأنه أن يجعل كل منطقة تبحث عن مصالحها وهو ما يبدو ماثلا في قيام محافظات عدة بإنشاء أجهزة عسكرية وأمنية وإدارية خاصة بها وهو ما قد يفضي إلى تشظي اليمن إلى كنتونات ودويلات تتوارث الفوضى التي يجري تكريسها بشكل منظم بما يعكس تماما أن الجنوب لن يبقى جنوبا والشمال لن يظل شمالا وأن كل منهما سيتمزق إلى جزئيات صغيرة غير قابلة للحياة أو التعايش إلى جوار بعضها البعض.
من المفارقات العجيبة أن نجد المناطق التي تخضع لسيطرة قوات التحالف العربي وسلطة الرئيس هادي والتي يطلق عليها بـ(المحررة) تعاني أكثر بكثير من الفلتان الأمني وفوضى السلاح والنهب والقتل من المناطق التي لا تزال تحت نفوذ جماعة (أنصار الله) وحلفائها بل إن وقائع الأحداث تشي إلى أنه وفي اللحظة التي انتفى فيها مبرر الفوضى في هذه المناطق أن يستمر إنتاج وصناعة المزيد من الجيوش المليشياوية متعددة الولاءات والمصالح والتي لا تلتقي تحت قيادة واحدة إذ لا تفسير لهذه الظاهرة المتنامية بقوة في مناطق كعدن وحضرموت وشبوة سوى ما يطرحه البعض من أن صناعة هذه الجيوش يأتي في إطار الاستعداد لحروب ما بعد الحرب الكبيرة والتي يتم التحضير لها من الآن، وبالذات وأن هناك أكثر من طرف يضع في حساباته احتمالات تقسيم الخريطة الجغرافية والديمغرافية والسياسية اليمنية كنتيجة حتمية للحرب القائمة وتفكك سلطة الدولة فضلا عن أن هذه الاحتمالات أصبحت محل ترحيب الحراك الجنوبي بعد أن تسربت بعض المعلومات عن أن خيار تقسيم اليمن صار من الخيارات التي تدرس في الغرف المغلقة من قبل بعض الأطراف الإقليمية والدولية والتي قد تلجأ لمثل هذا الخيار في حال فقدانها السيطرة على اليمن.

بعد أكثر من عامين لا بد وأن الدول الخليجية التي تقود عملية (عاصفة الحزم) قد اتضح لها أن القوى التي تسعى إلى إضعافها وشل قدراتها العسكرية في شمال اليمن ما كان لها أن تصمد كل هذا الوقت من دون أن تكون قد خططت لجر التحالف العربي إلى حرب استنزاف طويلة مما يعني أن تلك القوى كانت تفكر بطريقة مخالفة تماما للطريقة التي يفكر فيها التحالف مما جعلها تعمل خارج مداركه ورغم استيعاب التحالف لهذه الحقيقة فإنه الذي ظل يفتقر على ما يبدو إلى الآلية التي سينهي بها هذه الحرب، ولذلك نرى على المستوى العملي أنه لا يوجد طرف من أطراف الصراع يمتلك مشروعا سياسيا عقلانيا يتمخض عن تسوية سياسية يقبل بها الجميع خصوصا بعد أن انضمت إلى الحرب مكونات عسكرية ومناطقية وجهوية تسعى أن تكون شريكا في رسم ملامح خريطة اليمن لما بعد الحرب والذي سيكون في الغالب ساحة مفتوحة لتناقض الرهانات وتصارع الفرقاء.

ما زال التخبط هو السمة الأبرز لكل المبادرات الأممية تجاه الوضع في اليمن، فلا حديث عن آليات محددة لكيفية تنفيذ المرجعيات الثلاث التي يتمسك بها التحالف العربي وحكومة الرئيس هادي ولعل ذلك هو ما دفع المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد إلى التراجع عن تبني خريطة طريق متكاملة للتسوية ليكون البديل بالنسبة له هو الترويج لحلول جزئية أهم عناصرها تتعلق بإدارة الحالة الإنسانية من خلال دعوته أطراف النزاع إلى التوافق على إدارة ميناء الحديدة وتسليمه لطرف ثالث لضمان استمرار تدفق المساعدات الإنسانية واعتبار ذلك مدخل ضروري لأي حل.. إلا أن هذه الحلول الجزئية لم يجد لها ولد الشيخ مكانا في قلب وعقل السلطة الحاكمة في صنعاء والتي رفضت سلفا هذه الحلول واعتبرتها بمثابة اعتراف ضمني بفشل مهمة ولد الشيخ في اليمن، وفي كل الحالات فإذا كان الحل العسكري يكاد أن يكون مستحيلا فإن إمكانيات الحل السياسي تبدو هي الأخرى بعيدة في الفترة الحالية ولا يمكن التعويل على حلول تطرحها الأمم المتحدة طالما وأن لا أحد من أطراف الصراع الداخلية والخارجية لديه الاستعداد لتقديم التنازلات وأخذ زمام المبادرة وهو ما قد يدفع اليمن نحو التفتيت وليس التقسيم والخاسر الأكبر هنا لن يكون فقط هو اليمن وإنما دول الجزيرة العربية والخليج والعالم العربي والإسلامي عموما.

كاتب يمني