المسارعة في الخيرات بين الإفراط والتفريط

بلادنا الاثنين ٢٩/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤٠ ص
المسارعة في الخيرات بين الإفراط والتفريط

إعداد - أحمد بن سعيد الجرداني

نحن في هذه الأيام محتاجون إلى أن نتبين هذه الخصلة -المسارعة في الخيرات- وأن نَعرِف معانيها، وأن نَعرِف دلالاتها ومضامينها في كتاب الله عز وجل، ثم كيف ورد موضوع المسارعة في الخيرات في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هديه الشريف -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟ وكيف فهم صحابته -رضوان الله تعالى عليهم- هذه الخصلة النبيلة والخلق الرفيع عنه -عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وكيف طبَّقوه؟

الوقوع في الإفراط أو التفريط

في البداية يحدثنا مساعد المفتي العام للسلطنة فضيلة الشيخ د.كهلان الخروصي قائلاً: المسارعة في الخيرات من المواضيع التي تتعلق بكامل حركة هذا الإنسان في هذه الحياة وكيفية تناوله لأوامر الله عز وجل امتثالاً لها وأداءً لحقوقها ووقوفاً عندها، ذلك أن كثيراً من الناس في واقع حياتهم اليوم يعلمون ما شرعه الله سبحانه وتعالى لهم من أحكام هذا الدين وهم في خبايا نفوسهم وفي طوايا ضمائرهم عازمون على أدائها وامتثالها، لكننا حينما نقلِّب واقع بعض هؤلاء المسلمين نجد أنهم يقعون بين إفراطٍ وتفريطٍ، فمنهم من يتعجل فإذا به يقع في محذورات التهور والطيش، وعدم إتمام الأمور، وعدم إحكامها، فلا إتقان ولا إحسان ولا أداء مجز عند الله سبحانه وتعالى، ولا يحقق العمل الذي يقوم به سواء كان من أمور العبادات أو المعاملات المتعلقة بسائر نواحي حياته لا يحقق أياً من تلك النتائج التي جعلها الله سبحانه وتعالى مودعةً في ذلك العمل من جراء تلك العجلة وذلكم التهور الذي وقع فيه.

وصنفٌ آخر من الناس تجد أنهم يتكاسلون ويصابون بالخمول والدعة، مع أنهم يمنون أنفسهم أن الفرص سوف تسنح بعد ذلك، وسوف يبادرون ويقومون بأداء ما عليهم، فإذا بهم يفوتون الفرص، وإذا بالأعمار تنقضي، وإذا بالآجال تنصرم ولمَّا يعملوا ما كانوا يقصدون ويرمون، فبين هذا الإفراط وذلكم التفريط كان موضوع المسارعة في الخيرات، نبتغي من ورائه أن نلفت نظر وعقول الناس إلى أهمية الحكمة في التعامل مع أوامر الله سبحانه وتعالى من حيث المبادرة إليها، ونجد أن موضوع المسارعة في الخيرات قد تكرر كثيراً. تكرر صفةً وُصِفَ بها عباد الله الأتقياء الموعودون بالجنان العالية، كما تقرر ضد هذه الصفة وهو التباطؤ والتكاسل والتسويف، وعدم المبادرة في بيان صفات أولئك الذين هم إما أن يكونوا من المنافقين أو ممن يجحدون نِعَمَ الله سبحانه وتعالى، وهناك صنفٌ ثالثٌ هو أبعد في العتاب وأشد في الوعيد وهم أولئك الذين يسارعون في المنكرات، فإنهم لم يقفوا فقط عند حدود التكاسل والتباطؤ عن أداء الخيرات، وإنما كانوا من المتعجلين المبادرين إلى ارتكاب المنكرات، أي أنهم يسارعون في المنكر، ويسارعون في ارتكاب ما يسخط الله سبحانه وتعالى.
ولذلك قلنا المسارعة في الخيرات ولم نقل المسارعة إلى الخيرات فقط، لأن الفارق بينهما كما يقول بعض علماء التفسير إن المسارعة في الشيء تعني: المسارعة إلى الوقوع والتلبس به والمسارعة في إتمامه وأدائه بحسب مقتضى الحكمة وقت أدائه، فإذن مسألة الحكمة حاضرة في التعريف، لكن الفارق بين المسارعة إلى الخيرات أنه قد يُفهَم منها فقط أنها المسارعة إلى الابتداء بفعل الخيرات، لكن المسارعة في الخيرات هي تتضمن هذا المعنى الذي هو التلبس، أي سرعة التلبس بأداء ذلك الذي فيه خير، كما أنه يعني المبادرة إلى إنجاز ذلك الذي هو فيه من عمل الخير بحسب ما تقرره مقتضى الحكمة، وفي كلمة المسارعة في الخيرات دلالةٌ على معنى المداومة على فعل ذلك الخير، لأن المسارعة إلى الخير قد تعني أن يفعله مرة واحدة، لكن المسارعة في الخير تعني تكرار ذلك منه، وتكرار أداء ذلك الفعل بهذه المبادرة التي يكون فيها صرف الهمة، وتكون جادةً وتكون بحسب مقتضيات الحكمة.
وفي سؤال حول المبادرة والمسابقة والمسارعة هل تعني أعمالاً داخلة في الخير نفسه غير منفصلة عنه بمعنى أنها تلفه من بدايته إلى نهايته؟ أم هي معانٍ مترادفة فقط؟
أجاب فضيلة الشيخ كهلان قائلاً: لا، بل هي ليست بمترادفة وإنما -كما قلت- المسارعة إلى الشيء يقال أسرع إليه إذا ابتدر في الشروع فيه، بغض النظر عما إذا كان سوف يكون مبادراً في إنجازه وإتمامه أو لم يكن كذلك، وقد يحصل منه ذلك مرةً واحدةً.
أما المسارعة في الشيء فيعني ذلك المبادرة إليه، وأعني المبادرة في إتمامه وإنجازه على وجهٍ متقنٍ، كما تعني المداومة عليه، فهذه المعاني أبلغ، لكن في مفهوم الناس أو حسبما يتعارف عليه الناس فمعانيها متقاربة، لكن في الاستخدام القرآني -وهذا سوف يجيب على سؤالك- المعنى الأقرب أو الاستخدام الأكثر هو المسارعة في الخيرات، فالله سبحانه وتعالى وصف بعض أهل الكتاب بهذه الصفة فقال في سورة آل عمران -وفي ذلك ما يدعو المسلمين من أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم- إلى التأسي- يقول: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} ذِكرُ هذه الصفة في هذا السياق دليلٌ على علو منزلة هذه الخصلة، وعظيم شأنها، فلو لم تكن من علو الشأن وعظم المنزلة بهذه الدرجة لما ذُكرَت في هذا السياق الذي وُصِف فيه هؤلاء بأفضل صفاتهم امتداحاً لهم، وثناءً على هذه الصفات، وإعلاءً من شأن هذه الخصال لكي يتأسى بها المسلمون من هذه الأمة، فلذلك ذَكَرَ الإيمان بالله واليوم الآخر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات، وهذا الفعل الذي استُعمِل {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

عمل من أعمال الآخرة

وفي سؤال يقول أريد أن أدرك الحقيقة حول هذه الآيات، يقول الله تعالى فيها {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ...}، ثم ذكر أموراً بعضها يحتاج إلى السرعة التي نتحدث عنها نحن بمفهومها العادي، وبعضها يحتاج إلى بطء، كيف يفهم الإنسان هذا؟ {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} هذا بالفعل فيه سرعة وفيه مبادرة، أما كظم الغيظ والعفو عن الناس يحتاج إلى أناة وإلى تمهل شديد وكظم للغيظ وتصبير لهذه النفس وربما هذا يحتاج إلى فترة، هل هذا يدخل في معنى المسارعة في الخيرات؟ أم أن الآية تتحدث عن صفاتٍ أخرى؟

فأجاب فضيلة الشيخ كهلان بقوله: لا..، الآية تتحدث عن أعمال من أعمال الآخرة، وأعمال الآخرة بلا خلاف هي مما ترد فيها المسارعة، ذلك أنها صُدِّرَتْ بهذا العموم المسارعة إلى كل ما فيه مغفرة من الرب سبحانه وتعالى، وكل ما يحقق لهذا العبد بلوغ جنةٍ عرضها السموات والأرض، ثم بينت صفات هؤلاء وهي متفاوتة، ولعل الأبرز هو بين خصال الفعل وخصال الترك، فخصال الفعل كما ترد فيها المسارعة، لكنها لا تكون بدرجةٍ واحدةٍ، أما خصال الترك فإن المسارعة فيها بدرجةٍ واحدةٍ وهي المسارعة أو المبادرة إلى الترك والتخلي، ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ...}، وكأن الاستغفار والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى بتذكره والعودة إليه وطلب المغفرة منه إنما تقع حينما يقع منهم ظلم للنفس أو ارتكاب لفاحشة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فإذاً ما كان محتاجاً إلى أن يتوب منه المرء وأن يستغفر الله عز وجل منه وأن يعود فيه إلى طريق الحق والخير والاستقامة والصلاح فإنه مطلوب منه، المبادرة إذن ستكون في مصلحته، لأن فرصة التوبة حاضرة.

أما الأفعال التي هي ليست بترك وإنما هي عملٌ يقوم به فإن درجة المسارعة فيها متفاوتة -كما أشرتم-، لكن في مجملها أضبط ما يمكن أن تُعرَفُ به هو ما عرَّف به بعضهم المسارعة فقال: تقديم العمل في أوقاته التي تدعو الحكمة إلى وقوعه فيه، وهي سرعة العمل أي المسارعة هي سرعة العمل ومثلها المبادرة، فإذن هذا شرط تقديم العمل في أوقاته التي تدعو الحكمة إلى وقوعه فيه، والحكمة تختلف من وقتٍ إلى آخر ومن زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، فما قد يكون حكمةً في مكان قد لا يكون كذلك لكنه بحسب الشرع والعرف ومقررات العقل في ذلك.. في تلك البيئة.. في ذلك الزمان غير خارجٍ عن نطاق الحكمة، ونحن من يُسر هذا الدين ومن رحمة الله عز وجل بالعباد جعل الحكمة مبدأ يرجعون إليه في تطبيقهم لتعاليم هذا الدين {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...} وفي أبسط معاني الحكمة: هو وضع الشيء في موضعه، بعيداً عن العبث، وعن اللهو، وعن كل ما يتناقض.. كل ما يتعارض ومقتضيات المعروف والخير والصلاح بحسب عرف ذلك المجتمع مما لا يتعارض مع مقررات وثوابت هذا الدين.

الوقت المناسب

الشيخ كهلان: لا حرج، أي لا يمكن حمل الناس على قالبٍ واحدٍ، والناس تحكم تصرفات استقامتهم ودينهم وضمائرهم ومدى مراقبتهم لله سبحانه وتعالى، كحال طبائعهم وطباعهم وخلالهم التي فطروا عليها فلها دورٌ في حملهم على ما يأتون وما يذرون، لا يمكن إنكار ذلك، ولكن متى ما وُجِدَتْ نيةٌ صحيحةٌ -هذا الذي مثلاً يرى أن الحكمة أن يتريث ويتأنى- إن كان لا يقصد تسويف فعل الخير -تأخير الخير عن وقته-، وإن كان لا يريد أن يبرر لنفسه التأخر عن المبادرة إلى الخير فهو لا شك سالمٌ أو أن قصده صحيحٌ لا غبار عليه، كما أن ذلك الذي يبادر إلى إنكار المنكر مثلاً بطريقةٍ ما إن كان قصده حسناً خالصاً لوجه الله تعالى.. لا يريد المراءاة ولا يريد شيئاً من المقاصد أو الحظوظ الدنيوية فإن ذلك واسع له في دينه بمشيئة الله تعالى.

المصدر موقع القبس الإلكتروني للشيخ عبدالله القنوبي (بتصرف)