العقلية الأمنية العربية والغربية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٨/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٥٠ ص
العقلية الأمنية العربية والغربية

د. فيصل القاسم

لا أعتقد أنك ستجد جهازاً سياسياً أو إعلامياً أو أمنياً في الدول التي تحترم نفسها يقوم بمراقبة شبكة الإنترنت ومواقع التواصل بهدف التجسس، وتكميم أنفاس الشعب أو ملاحقة الناس بهدف تطويعهم وتركيعهم وتكميم أفواههم أو إيداعهم السجون. لا شك أن الدول الغربية تتابع توجهات الرأي العام في بلادها عبر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل، لكن ليس لأغراض أمنية، بل ربما لمعرفة التوجه العام. وغالباً ما تكون المراقبة لأغراض بحثية واقتصادية وتجارية. ولا بأس في ذلك. أما في بلادنا التعيسة، فالقبضة الأمنية تطال كل شيء، وحتى العالم الافتراضي المفتوح الذي تصعب مراقبته. مع ذلك، لا تتردد معظم الأنظمة في إنشاء أجهزة أمنية خاصة مهمتها متابعة رواد التواصل الاجتماعي لأغراض أمنية بالدرجة الأولى. وعلى عكس كل الأمم، فإن أول كومبيوتر عملاق في بعض البلدان لم يدخل إلى الجامعات، بل دخل إلى فروع الأمن والمخابرات، بالرغم من أن ثمنه كان باهظاً جداً في ذلك الوقت. لم تفكر تلك الأنظمة المخابراتية البوليسية في استغلال الاختراعات الإلكترونية في خدمة التربية والعلوم والطب والصحة، بل استغلتها فوراً لأهداف القمع والملاحقة وتكميم الأفواه وضبط الشعوب.

وكلما ظهر نوع جديد من الإعلام الإلكتروني كانت أجهزة الأمن العربية له بالمرصاد كي تضبطه وتقمعه رغم صعوبة المهمة كما أسلفنا. قد يجادل البعض بأن أجهزة الاستخبارات الدولية كلها تراقب مواقع التواصل والإنترنت. وهذا صحيح، لكنها تراقب الحركات والشخصيات المشتبه بانتمائها إلى جماعات إرهابية أو جماعات قد تشكل خطراً على المجتمع والناس. وهذا عمل تشكر عليه الأجهزة، كما تشكر أيضاً على ملايين الكاميرات التي تنصبها في شوارع المدن الغربية لحماية الأمن والاستقرار وتأمين سلامة الشعوب من اللصوص والمجرمين. أما عندنا فالمراقبة الإلكترونية آخر ما يهمها أمن وسلامة الناس، والميزانيات الضخمة التي ترصدها أجهزة الأمن في العديد من الدول هدفها إحصاء أنفاس الناس والقمع الاجتماعي والسياسي والأمني. وقد نجحت أجهزة المخابرات في معظم الدول في ضبط شبكات التواصل الاجتماعي إلى حد ما وتحجيمها وكبت أنفاس مرتاديها، لهذا مثلاً تكثر الحسابات المفتوحة بأسماء وصور وهمية خوفاً من الملاحقة الأمنية. ويجب الاعتراف بأن هناك ملايين العرب حتى الآن في عصر السموات المفتوحة يخشون من وضع «لايك» على منشور في فيسبوك أو تويتر أو غيرهما، لأن الثمن سيكون غالياً. وقد شاهدنا كيف دخل الكثير من العرب إلى غياهب السجون بسبب فتح حساب على فيسبوك أو لمجرد وضع لايك على بوست لكاتب معارض. وقد سمعت الكثيرين يقولون لي: نحن نتابع كل منشوراتك على مواقع التواصل لكن لا نستطيع أن نبدي إعجابنا بها أو «تشييرها» لأن ذلك يعرضنا لخطر شديد.

ولم تتوقف فروع الأمن الإلكتروني عند ملاحقة رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بل شكلوا أقساماً يعمل فيها ألوف النشطاء الأمنيين للتأثير على الرأي العام ومواجهة الأصوات الحرة الخارجة عن طوق الأنظمة، والتي تعبر عن رأيها بلا خوف أو وجل في مواقع التواصل. ويمكن أن نشير إلى مصطلح جديد ظهر مع انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن أطلق عليه اسم «الحراسة الإلكترونية». وهذا النوع صناعة مخابراتية لحماية الأنظمة والحكومات من آراء وتعليقات مرتادي مواقع التواصل، فقد وظفت أجهزة المخابرات في معظم البلدان آلاف الأشخاص المختصين في الشؤون الإلكترونية لمواجهة التعليقات ووجهات النظر التي قد يبديها مرتادو مواقع التواصل، فإذا هاجم أحدهم سياسة بلد معين، يتصدى له فوراً مجموعة من الأشخاص بأسماء مستعارة، وقد يظن البعض أنهم مواطنون عاديون يعبرون عن آرائهم، لكنهم في الواقع عناصر أمنية مهمتهم إرهاب الكتاب والمعلقين في مواقع التواصل والضغط عليهم وتخويفهم كي لا يكتبوا ضد هذا النظام أو ذاك. وإذا كتبت منشوراً ووجدت أن عدد المهاجمين كبير جداً، فإياك أن تعتقد أنهم أشخاص حقيقيون يعبرون عن وجهة نظرهم، بل هم جوقة مخابراتية بأســـماء وحســابات مستعارة تريد توجيه الرأي العام حول قضية معينة باتجاه معين يخدم الخط العام لهذا النظام أو ذاك، ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن الرأي العام الحقيقي. كن حذراً وأنت تتابع التعليقات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، وشيئاً فشيئاً ستستطيع التمييز بين الحسابات والتعليقات واللغة المخابراتية والحسابات العادية على مواقع التواصل، مع الاعتراف أن المهمة صعبة جداً، وقد تنطلي عليك الكثير من الحسابات والتعليقات الأمنية المزيفة لردح من الزمن.

falkasim@gmail.com