الفرنسي المعادي للشعبوية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٣/مايو/٢٠١٧ ٠٥:٠٥ ص
الفرنسي المعادي للشعبوية

سلافومير سيراكوفسكي

ما زال الديمقراطيون بأطيافهم كافة يحتفلون بفوز الوسطي المدافع عن أوروبا «إيمانويل ماكرون» أمام مرشحة الجبهة الوطنية، اليمينية المتطرفة «مارين لوبين»ليصبح رئيس فرنسا وبينما يعد فوز ماكرون نبأً ساراً، إلا أنه لا ينبئ بهزيمة الشعوبية في أوروبا. على النقيض من ذلك، يمثل ماكرون نوعا من «الشعوبية المستنيرة» التي تأتي بمشكلاتها الخاصة بها.

كان ترشح ماكرون، وكذا لوبين، بمثابة توبيخ للأحزاب السياسية الرئيسية في فرنسا فقد أقنع الناخبين بوعده بتطبيق النمط الاسكندنافي الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية ودولة الرعاية المرنة ولكن آن الأوان أن نعترف أن إسكندنافيا تجربة فريدة وأن البرامج الناجحة هناك قد لا تكون قابلة للتكرار في أي مكان آخر.

ومع ذلك، قد لا تعد شعبوية ماكرون شيئا سيئا في مجمله على المدى القصير. ربما في فرنسا وأماكن أخرى حاليا، لا يهزم الشعبوي إلا شعبوي مثله. وإذا كان الأمر كذلك، فإن شعبوية «ماكرون» المستنيرة بالتأكيد أفضل من الشعبوية القومية التي تؤيدها «لوبين». والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو ما إذا كانت الشعبوية المستنيرة تستطيع أن تلعب دورا في إبعاد الأنظمة السياسية عن الشعوبية تماما وباتجاه حلول حقيقية للمشكلات التي تواجه بلدانها.
يتمثل الترياق الوحيد الحقيقي للشعبوية – السبيل الوحيد الحقيقي لحل المشكلات التي يواجهها عامة الناس – في مزيد من العولمة السياسية. وعلى أي حال، فإن العولمة الاقتصادية بدون العولمة السياسية هي التي تولد القومية. يعد الشعبويون بإيقاف العولمة الاقتصادية؛ بيد أنهم، في الواقع، لا يستطيعون سوى إيقاف (أو عكس) العولمة السياسية. ومن ثم، فإن من شأن وصول الشعبويين إلى السلطة أن يخلق دينامية ذاتية التعزيز، تتزايد فيها أهمية القومية.
ومع ذلك، كما يبرهن «ماكرون»، لا تحتاج كل الشعبويات أن تكون قومية. فمن الناحية التاريخية، لا تزال الشعبوية اليسارية أكثر شيوعا من شعبوية اليمين، وهي القوة التي تعكس، في الغرب حالياً وفي عيون العديد من المواطنين، تصور أن اليسار أصبح نخبوياً. ومن ثم، قد يسوق البعض حجة مفادها أن الشعبوية يمكن استردادها من القوميين واستخدامها للدفع قدما بعملية التكامل الأوروبي والعولمة السياسية.
ولكن، رغم الحماس واسع النطاق بشأن فوز «ماكرون»، يظل معظمنا في اللاوعي يؤمنون بحتمية القدر فيما يتعلق بالعولمة السياسية فمن الذي يؤمن اليوم بالديمقراطية العالمية، أو حتى بالولايات المتحدة الأوروبية؟

وقديما قبل الموجة الحالية من الشعبوية القومية، رفض الأوربيون دستوراً أوروبياً محدوداً ومقارنة بهذا الطموح السابق، حتى أكثر مقترحات «ماكرون» جرأة من أجل التكامل في منطقة اليورو لا تعدو في الواقع عن كونها تعديل بسيط وقد أوضحت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، بعد تهنئة «ماكرون»، أنها لن تنظر في أي تغييرات في السياسة الضريبية – وهو الموقف الذي من شأنه أن يعرقل إنشاء وزارة مالية خاصة بمنطقة اليورو.
تعزز الخبرة الفائتة بالشعبوية المستنيرة هذا المنظور القاتم نوعا ما. كان مؤسس الشعبوية المستنيرة هو دونالد تاسك، رئيس الوزراء البولندي الأسبق والذي يشغل الآن منصب رئيس المجلس الأوروبي وقبل شغل منصب رئيس الوزراء في بولندا، ترك تاسك مثل ماكرون، حزباً رئيسياً ليؤسس حركته الشعبية الخاصة به، حزب المنبر المدني. ومثل حزب ماكرون «إلى الأمام» أكدت هذه الحركة على أهمية الشباب والتفاؤل والوعد باستغلال مواهب الناس وطاقاتهم.

وبوصفه رئيس وزراء، كان تاسك يرد على الأسئلة المتعلقة برؤيته السياسية مازحا بأن أي شخص رأى رؤى يجب أن يذهب إلى الطبيب. لقد اختار أناسا من اليسار واليمين ليشكل حكومته (وهو النهج الذي انعكس في ادعاء ماكرون بأن نموذج سياساته يتجاوز الانقسام بين اليسار واليمين). حشد تاسك مجموعة متنوعة «مشكالا» من الآراء والأفراد، وكان يهز «المشخال» متى اقتضت الحاجة لمنظور جديد.
بيد أن تاسك، مثله مثل «ماكرون»، واجه تحديا هائلا من الشعبوية القومية، والتي تمثلت في بولندا في حزب القانون والعدالة برئاسة الراحل ليخ كاتشينسكي وتوأمه باروسلاف، وهو الزعيم الفعلي الحالي لبولندا. وحتى بعد وصول تاسك إلى الحكم، كان الاخوة كاتشينسكي هم من يحددون جدول أعمال النقاش السياسي ويحددون نبرته. إذ إن تاسك قد أُجبر على البقاء في موقف دفاعي، تشكلت السياسة البولندية من كل من حزب القانون والعدالة والمعادين له.
وقد يجد ماكرون نفسه في موقف مماثل، تحيط به مخاطر ثلاث رئيسية. أولا، أن تستمر لوبين – والتي طالبت في خطاب الاعتراف بالهزيمة، الوطنيين بالالتزام تجاه «المعركة الحاسمة التي تنتظرهم» - بتحديد نبرة النقاش السياسي. وفي هذه الحالة، قد يُجبر ماكرون على التركيز على انتهاج سياسة العزل والتطويق والتي تضم أولئك الذين تتفق وجهات نظرهم على قضية واحدة فقط: معارضة لوبين.
ثانيا، الضغط لإيقاف لوبين قد يُجبر ماكرون على التخلي عن الإصلاحات الجريئة، بدلا من المخاطرة بفقدان عدد أكبر من الناخبين أكثر مما يستطيع تحمل خسارته وفتح الطريق أمام لوبين والجهة الوطنية ليعززوا موقفهم. وفي بولندا، أجريت الإصلاحات رغم أنف السياسة وبدلا من تنفيذ جدول أعمال طموح، لم ترق سياسة تاسك إلا إلى «الاحتفاظ بالماء الدافئ في الصنبور». وقد ينتهي المطاف بماكرون إلى نفس الوضع.
ثالثا، قد يساعد ماكرون دون قصد في إيصال الجبهة الوطنية إلى السلطة. وقد يصبح التقسيم السياسي الحالي بين الصواب والخطأ، بدلا من التقسيم بين اليمين واليسار، نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها حتى أفضل السياسيين من المحتم أن يقوم بارتكاب خطأ معين في وقت ما، أو ببساطة إثارة سأم جمهور الناخبين. إذا ظلت لوبين المعارض الرئيسي لماكرون، فالأمر لا يعدو أن يكون سوى مسألة وقت قبل أن تصل إلى السلطة مثلما فعل ليخ كاتشينسكي، وستدمر وطنها. ومن ثم يكون ماكرون الحصن ضد لوبين والضامن لنجاحها في الوقت ذاته.
فقط التقسيم المناسب إلى يسار ويمين هو الذي قد يضمن بقاء الديمقراطية الليبرالية، حيث يمنح ذلك الناخبين خيارات متعددة آمنة. بيد أن عناصر تلك التركيبة ممكنة فقط في إطار مجتمع سياسي يتمتع بسيادة اقتصادية، وهذا لن يكون ممكنا حتى يكون لدينا عولمة سياسية. وكل شئ يعود إلى نقطة البداية.
ولندرك ما إذا كنا نرى المد أو الجزر العالي للشعبوية في أوروبا، فإن نتائج الانتخابات الفردية لا تعني سوى القليل. يجب أن يظل التركيز على العوامل الهيكلية – والأهم من ذلك، العولمة الاقتصادية في غياب العولمة السياسية – مما يعكس زيادة الشعوبية. وفي هذا الصدد، لم يتغير شيء.

مؤسس حركة النقد السياسي ومدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو.