بسمة أطفال سوريا

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٥/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤٠ ص

باميلا كسرواني

ماذا تريد أن تعمل عندما تكبر؟ حفّار للقبور. أي هدية تتمنّين؟ أريد أن أرى البحر. هذه ليست أسطراً من سيناريو في أحد الأفلام الدرامية لا بل تمنيّات أطفال سوريين لم يعرفوا في حياتهم إلا الحرب والدمار.

أطفال تهّجروا من مختلف المناطق السورية التي دمّرتها الحرب المتواصلة ووجدوا أنفسهم في الأردن، في مجتمع لا يعرفونه وفي بيئة غريبة عنهم.

إلا أن مركز «هابيناس أغين» أو «السعادة مجدداً» يريد أن يرسم الابتسامة مجدداً على وجوه الأطفال الذين يتغلّبهم الزعل والقهر أو تجدهم مهمومين، وكأن كل مشاكل أهلهم فوق رؤوسهم لاسيما أنهم غالباً ما يعيشون في غرفة واحدة ولا شيء يُخفى عنهم. في محاولة للتعرف أكثر عن هذا المركز وبرامجه، ضربنا موعداً مع إحدى مؤسساته، ليلى ميداني، على سكايب؛ حديث طال أكثر من المعتاد وانطبع بالكثير من الغصّات عند سماع قصص الأطفال السوريين وتغلّب عليه الشعور بأننا غالباً ما ننسى المآسي التي يختبرها من يعيشون الحروب وإنما أيضاً الكثير من التفاؤل بأن بعض الأشخاص يعملون بكل ما لديهم من قوة وإصرار على ترك بصمة تفاؤل في حياة هؤلاء. ليلى ميداني واحدة من هؤلاء الأشخاص؛ هاجرت إلى الولايات المتحدة لبعض الوقت إلا أن الحاجة إلى التصرف دفعتها إلى الانتقال إلى الأردن، قائلة: «لو لم أفعل ذلك، كنت سأصبح أنا الضحية».
هذه الصيدلانية السورية التركية عملت منذ انتقالها إلى الأردن في بعثات طبية لمساعدة الجرحى واللاجئين في الأردن. وتخبرنا «خلال عملنا، لاحظنا أن الجانب النفسي لدى الأطفال محطّم ولا أحد يهتمّ بهم. هم نواة مجتمع جديد وإذا تركناهم، ضاعوا وضاع البلد معهم لأن الأمل بالصغار». وتتابع: «بدأنا بمشروع صغير للدعم النفسي مع منظمة «سايف ذي شيلدرن» الذين وفّروا لنا المبنى وأحضرنا 30 طفلاً وعملنا معهم ولاحظنا، خلال شهر فقط، التحوّل الجذري، من ولد كان نواة لمجرم قادر أن يضرب ويُعنّف إلى طفل طبيعي يريد أن يرسم ويلعب. عندما رأينا هذا التغيير، قررنا تأسيس المركز نهاية 2013».
تهتم ميداني وشريكاتها بالجانب الإداري من المركز في حين يعمل أطباء وأخصائيين نفسيين إضافة إلى مساعِدات على توفير برنامج غير تربوي للأطفال والأهالي؛ برنامج أمريكي تمّ تعديله ليتناسب وعقلية وثقافة السوريين.

برنامج خاص بالأطفال

حتى الآن، استفاد نحو 250 طفلاً سورياً سنوياً من برنامج المركز من دون أن ننسى الأطفال الذين يتوجه إليهم المركز في دور الأيتام أو حتى الأطفال العراقيين والأردنيين.

وتخبرنا ميداني أن أنواع الصدمات التي يعاني منها الأطفال مختلفة إلا أن أبرزها هي: اضطراب ما بعد الصدمة، الكوابيس، التبول اللاإرادي، فقدان التركيز، العدوانية، قلة الثقة بالنفس...وبالتالي، يختلف العلاج النفسي من طفلٍ إلى آخر.

إلا أن جميعهم يتّبعون برنامجاً يمتدّ على مدار ثلاثة أشهر ويقومون بنشاطات موّحدة بأغلبيتها إلا إذا احتاجوا عنايةً فردية. كيف يبدو يوماً اعتيادياً في المركز؟ تجيب ميداني: «في الصباح، يقومون بجلسات يوغا وتمدّد لعشرين دقيقة ليَحين بعدها موعد تلاوة قصة محددة». وهنا تُشير ميداني «القصص التي نختارها هي من الثقافة العربية أو حتى الثقافة الغربية التي تُحكى باللغة العربية. فغالباً ما لا تُعنى القصص العربية بالحيوانات وكيف نتعامل معها وهي ضرورية كي لا يصبح الولد عنيفاً. لذلك، نأتي بهذه القصص التي تناسب عقلياتهم ومجتمعاتهم لاسيما أن اهتمامات الطفل الغربي الطبيعي غير اهتمامات الطفل السوري أو الفلسطيني أو العراقي الذي عايش حرب. يجب أن نجد المنطق الذي يُحاكي عقليتهم ليَفتح الطفل عينيه ويتقبّل الآخر».
بعد هذا الموعد، ينقسم الأطفال إلى مجموعات من خمسة إلى سبعة أطفال لمختلف العلاجات بالفنون أو الموسيقى أو اللعب. وتُطلعنا ميداني أن المركز يعتمد أيضاً العلاج بالرمل الفردي للأطفال الذين يعانون من صدمات نفسية متقدمة شارحةً «يُطبّق مع أطفال منعزلين لا يتكلمون والنتائج مذهلة». إضافة إلى ذلك، يوفّر المركز وجبة خفيفة صحية والمواصلات كما يقوم بتقييم يومي للأطفال إضافة إلى رحلات إلى السينما والمتاحف والمنتزهات. وفي نهاية البرنامج، يُنظم المركز حفل تخرج ويوزّع الشهادات على الأطفال. أطفال قد تعجز هذه السطور عن اختصار قصصهم العديدة. فريم (كل أسماء الأطفال مستعارة)، ابنة الثماني سنوات هي واحدة من الأطفال الكثيرين الذين كانوا شهوداً على عمليات قطع الرؤوس في ريف الرقة. وتخبرنا ميداني «كانت دائماً تجلس في الزاوية ولا تجد على وجهها أي تعابير أو تعليق. اتبعنا معها عملنا علاج الرمل وكانت تدفن الناس تحت الرمل». وتتابع: «كتبت ريم على شجرة الأمنيات في المركز أنها تريد أن ترى البحر وحققنا حلمها. في طريق العودة، كانت تضحك وترقص واستعادت ابتسامتها. تطلّب العلاج 6 أشهر». أما محمد، ابن العشر سنوات، فكان شاهداً على مذبحة كرم الزيتون في حمص وشارك في دفن الأشلاء. وتخبرنا ميداني بغصة «طرد من المدرسة وكان عنيفاً، يعجز عن التركيز والبقاء في مكانه. اتبعنا معه علاج الرمل واكتشفنا أنه يملك قدرات قيادية. منحناه الحب ووفرنا له دروساً خصوصية لأنه لم يكن يعرف أن يكتب اسمه واليوم عاد إلى مقاعد الدراسة وبات يساعدنا في المركز!»
سامي، من جهته، كان يتمنى أن يصبح حفار قبور وذلك لأنه دفن والديه. بعد العلاج، تحسّن وبات يتمنى أن يصبح عالم آثار.
لا يهتم المركز بالحالات النفسية فقط لا بل يحاول أن يقدم قدر المستطاع المساعدات الطبية. على سبيل المثال، عمر كان يملك رجلاً أطول من أخرى. تكشف لنا ميداني «يأتي من ريف الرقة ومن عائلة مؤلفة من 11 ولداً. لم يهتم به والديه ولاحظنا بعد فترة مشكلته هو الذي كان يتمنى أن يملك «سكايت بورد». أجريت له عمليتان وما زال يحتاج إلى اثنتين إلى أنه على طريق الشفاء».

.. وآخر للأهل

لا شك أن علاج الأطفال النفسي أمر ضروري إلا أن المهم أيضاً العمل مع الأهالي؛ فهم أيضاً يحتاجون إلى مساعدة ويعانون من مشاكل جمة. تقول ميداني: «أغلبيتهم كانوا مسجونين أو تعرضوا للتعذيب أو جرحى أو مشلولين. هم مرعوبون ومُحبطون بنفس الوقت.. فتخيلوا أباً كان منتجاً في سوريا وصار لا أحد هنا، عاجز عن تأمين لقمة العيش».
وتتابع: «عندما يخرج الطفل سعيداً من المركز ويطلب منا النوم عندنا، هذا يعكس مشكلة في البيت. نقوم بزيارات للمنازل مع الأخصائيين النفسيين ونقيّم حاجاتهم وأوضاعهم أحياناً، الأطفال يحوّلون أهاليهم إلينا ويقولون لنا «مهند وسماح متعبين، اذهبوا لزيارتهم»؛ وبالفعل هذا ما نفعل حيث نقدّم جلسات لعلاجات نفسية ضمن برنامج للأمهات على مدار 3 أو 4 أشهر». إلا أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد لا بل تحضر مصممة مجوهرات لتعليم هذه الأمهات صناعة الأساور والعقود التي يتمّ بيعها لاحقاً. وتشير ميداني «النساء تحوّلن من أفراد يمدّون يدهم للمساعدة إلى منتجين يدفعون الإيجار. كنّ يخشيْن الخروج من البيت واليوم يحضرن إلى المركز لمساعدتنا...حتى أن زوج إحداهنّ قال لنا: «ماذا فعلتم بها، باتت قوية!».

والمهمة لا تنتهي هنا

فيقدم المركز برنامجاً للمراهقين في محاولة لإبعادهم عن طريق الخطأ. وتشرح لنا ميداني: «هم أصدقاء المركز يساعدوننا ويتبعون جلسات نفسية ومحاضرات مع متحدثين ودروس لغة إنجليزية وتكنولوجيا المعلومات. نصطحبهم في الرحلات ونطلب منهم بعض الخدمات مثل المساعدة في تنظيف أو دهن المركز».
كما أن المركز كما ذكرنا يُحاول توفير المساعدة الطبية لكل من يحتاجه بفضل العلاقات والمساعدات. ولا تحمل ميداني وشركاؤها الطعام خلال الزيارات المنزلية لا بل «سلة المنتجات الصحية». وتشرح لنا «ليس عملي أن أهتم بالحاجات الأولية. الله منحني العلم والعلاقات الجيدة، فأستفيد منها في حين أن آخرين يهتمون بنقل صناديق الأكل. تتخيّلون وصمة العار التي تحوم حول العلاج النفسي في العالم العربي؟ اليوم، بات لدينا لائحة انتظار للأهل والأطفال؛ الناس تعبانين مش جوعانين».
وتتابع: «الشعب السوري يشعر أنه متعب ومتروك. «الطبطبة» عليه وإشعاره بأنك تهتم به لأنكم متشابهين يحمله تلقائياً إلى الحضور إلينا للتكلم. لم يدركوا أولاً أن هذا علاج نفسي إلا أن الأمر تحول تدريجياً إلى أمر طبيعي وباتوا يرسلون أهلهم وجيرانهم. لم يعودوا مهتمين بصبغة العلاج النفسي عندما لاحظوا التغيير في أولادهم. ولدت علاقة ثقة بيننا؛ أناس من بدو الرقة وريف حلب الجنوبي لا يرفضون العلاج النفسي والطبي ويستعملون المنتجات الصحية. هم مجهّلون بالغصب إلا أنهم يتعاونون».
تقبّل الناس لما يقدّمه المركز أكبر «ردّ للجميل» للقيمّين عليه كما أن لا شيء يعوّض الابتسامة على وجه طفل مجدداً. تكشف لنا ميداني «هذا هو دافعنا وما يحثّنا على المثابرة. هذا الشعور بالرضى لا يعوّضه أي شعور بالدنيا ولا تستطيعين شراءه بأي ثمن». وترى ميداني أن المهم أن تنتشر ثقافة هذا المركز «لأن السوريين يحتاجون إلى آلاف المراكز مثله» متابعة «كل المبادرات أكيد ليست كافية مع 13 مليون مهجر بالخارج و8 مليون مهجر بالداخل في كارثة تعتبر الأسوأ بعد الحرب العالمية الثانية. ولا بد من تضافر جهود الجميع، الحكومات والأفراد والجمعيات».
وبانتظار أن ينهض طائر الفينيق من الرماد مجدداً، كما تؤمن ميداني، جهودها وجهود كل فريق العمل لا تتوقف. فهي تأمل أن تزيد العلاجات نظراً لكثرة الأطفال وأن تطوّر المشاغل لأنها تؤمن أنه «لو المرأة تخلصت من الإحباط، انحلت 70 % من المشاكل العائلية وباتت قادرة على تربية أولادها» إضافة إلى إطلاق مشاريع تشغيلية للرجال؛ فيتحوّل مركز «هابينيس أغان» إلى واحة تفاؤل لكل أفراد العائلة علّهم يجدون نوعاً من السلام والراحة في البلد المُضيف لهم.

متخصصة في الثقافة والمواضيع الاجتماعية