في الصبر سعادة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٩/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
في الصبر سعادة

أحمد المرشد

لم أكن أدري وأنا أكتب عن الضمير الأسبوع الفائت أنني سأتلقى كل هذه المكالمات والتعليقات على ما سردته عن الضمير، ولكني أصدقكم القول إنني أدركت حقا كل ما يقوله الفنانون الذين يسعدون بوقوفهم على خشبة المسرح أكثر من التمثيل أمام الكاميرا، لأنهم يشعرون برد فعل الجمهور فورا ومباشرة وبدون وسيط. فهكذا كان شعوري بعد نشر مقالي عن الضمير وضرورته في حياتنا العامة، وضرورة أن نجعل من ضمائرنا فجرا، ينير لنا أيامنا ودنيانا، لننهل من السعادة ما شئنا، لأن الضمير مثل أشعة الشروق، تحيي الأمل فينا. هذا رغم غياب جزء كنت أنوي الإشارة إليه وهو عن غياب الضمير العالمي، ولكن الأفكار الكثيرة التي تواردت على ذهني وقتها شغلتني عن كتابة هذا الجزء، ولكني أتعهد بالكتابة عنه تفصيلا في حينه إن شاء الله.

وإذا كنت قد أشرت إلى أهمية أن نفعل ضمائرنا في نفوسنا واتقاء الله جهراً وسراً، فأجدني الآن مشدوداً وبقوة لأكتب عن الصبر، هذه الصفة التي قد تغيب عن بعضنا، وربما لم يعيها الكثيرون أو يعيروها اهتماماً، رغم أنها صفة من صفات القوة في الإنسان، ومن يتحلى بها يجزيه المولى عز وجل خيراً، ومن يتكبر عليها، فمثواه بئس المصير والعياذ بالله.

في وقت وقوع المصائب على الأعزاء علينا أو أنفسنا نواسي بعضنا البعض قائلين: «أصبر وما صبرك إلا بالله»، فالصبر مفتاح الفرج والرزق والمحبة، يعني مفتاح الحياة وهو ما يعيننا على مصائبها، ومن أشهر قصص الصبر سيدنا أيوب عندما ابتلي في مرضه، فقال: «سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري».. ويضيف: «إني صبرت على شيء أمر من الصبر»، والحمد لله على قوله تعالى في سورة البقرة:{وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}.
والصبر ليس مجرد كلمة نقولها وقت الشدائد حتى نهدأ من الجزع الذي أصابنا، ولكن كلمة الصبر في حد ذاتها تعني الكثير، ربما يكون أقلها عندما ندعو المولى عز وجل «اللهم اجعلنا من الصابرين»، وهذا الدعاء يؤنسنا في حالات وظروف كثيرة، فمثلا عندما نغضب من شيء ما، فإذا تمادينا في الغضب خسرنا كثيراً، ولكن بمجرد استدعاء دعاء الصبر يكون أفضل لنا، حتى تهدأ موجة الغضب ويعود لنا اعتدالنا مرة أخرى. وتقول حكاية طريفة، إن أفعى دخلت ورشة نجارة وبينما هي تتجول هنا وهناك مر جسمها من فوق منشار مما أدى إلى جرحها جرحاً بسيطاً جداً. فارتبكت الأفعى ومن ردة فعلها الغاضية والعنيفة عضت المنشار، وكانت تريد بذلك لدغه على اعتبار أنه حيوان أو إنسان، مما أدى إلى سيلان الدم حول فمها.. لم تدرك الأفعى ما حدث لها واعتقدت أن المنشار يهاجمها، وحين أدركت أنها ستموت لا محالة، قررت القيام بردة فعل قوية ورادعة فالتفت بكامل جسمها حول المنشار، في محاولة منها لعصره أو خنقه حسب اعتقادها، ففقدت حياتها تماماً.
المغزى واضح لنا جميعاً، ففي بعض الأحيان نصاب بجزع مما يجعلنا نشعر بغضب شديد، ثم نجرح غيرنا بدون ذنب جناه، ولكننا ندرك بعد فوات الأوان أننا لا نجرح سوى أنفسنا. والحياة أبسط من ذلك، وربما نحتاج صبراً حتى نتجاهل الأحداث، ونتجاهل أشخاصا أساؤوا إلينا، وما علينا سوى تجاهل أفعالهم تجنبا لرد فعل غاضب منا، فربما تكون ردة فعلنا قاتلة لنا وليس لهم، فالصبر هنا هو ملاذنا الآمن من الشرور وردة فعل الغضب.

فالصبر على المرض، الفقر، ضيق الرزق، الظلم، الأمل، الحب، سيأتي بالشفاء وسعة الرزق والعدل والحياة الجميلة والحب والسعادة. وهنا نقول حقا، إن الصبر مآله السعادة، لأننا إذا صبرنا على متاعب الحياة ومشقاتها، سنشقي نوعا ما لفترة محدودة، الى أن تأتينا السعادة من لدن ربنا الكريم الرزاق العدل الرؤوف الحكم.

والصبر هو السعادة، لأنه نقيض الجزع لو تحدثنا عنه لغويا، ويقولون إن الصوم سمي صبرا، لما فيه من منع النفس عن الطعام أو حبسها عن الطعام والشراب، والصبر هو أيضا منع اللسان من الشكوي، فالي من أشكو، فالشكوى إلى الله هي طلب الصبر والتمسك به.
وفي العلوم الفقهية، يقول العلماء إن الصبر، هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع ويطلبه، أو ما يقتضيه العقل والشرع على النفس أن تحبسه، أي أن نحبس النفس عن ما حرم الله، وعن السخطِ من أقدارِه والشكوى منها. والصبر هو التحلي بالقوة والعزيمة والثبات عند البلايا والترفع عن الشكوى لغير اللهِ تعالى من حوادث الأيام ومجريات القدر.
وبمعاني الدين والأخلاق، فالصبر من حسن الخلق، بل يقول علماء الدين أنه من أحسن الأخلاق وأفضلها، لأنه المانِع عنِ الاندِفاعِ والوقوعِ فيما لا يحسن عقباه.. ونستدعي عند ذكر هذا المعنى حكاية الأفعى، فاندفاعها في غضبها من المنشار أوقعها في المحظور حتى أنهت حياتها بغضبها، فهي دفعت بالمكائد وتعثرت فيها ولم تعقل الأمور وابتعدت عن حسن التدبير، ولم تصبر على البلاء فهاجت وجرحت جسدها لدرجة الموت.
ومن حكمة الصبر، التسليم بأمر الله مهما كان الكرب عظيما، فإن كنا نتلقى مصائبنا بصبر ورضا تمر حياتنا بسهولة، ومن الحكمة أيضا أن نستفيد من ابتلاءاتنا لأن الصبر عليها يرفع درجاتنا ومنزلتنا عند الله وتزيد حسناتنا، وفي هذا تكفير للذنوب والسيئات..فقضاء
الله كله خير، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.[البقرة:155-157].. ولدينا البشارة العظيمة في قوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر 10].
الحديث عن الصبر يطول ويطول، فأحكامه كثيرة، وكذلك أنواعه، وإن نذكر منها الصبر على المسرات، لأن الجميع يعتقد أن الصبر يتوقف على البلاء والابتلاء وما يقع لنا من مصائب، وفي هذا خطأ كبير. وكما أن الصبر مطلوب في الابتلاءات فالأشق وأصعب منه الصبر على النعم والمسرات، ولذلك نرى أنه لا يصبر على السمرات إلا الصادقون رغم أننا مأمورون بالصبر في السراء وكل الأوقات، ويكون الصبر عليها عن طريق عدم الركون إليها، وألا ننهمك في نيلها وبلوغها، وأن نصبر على أداء حق الله فيها ولا نضيعه، وكذلك أن نصبر عن جاءنا من نعم في الحرام.

نعلم أن للصبر أنواع وفوائد جمة، ولكن هل للصبر حدود، بالطبع لا، فالصبر على الابتلاء لا وقت له حتى بعد نهاية الابتلاء والكرب، وحتى لو عشنا عمرنا كله سواء في بلاءات وابتلاءات أو مسرات ونعم كما أسلفنا، فالصبر أيضا عبادة يجب أن يتحلى بها كل مسلم، رضاء بقضاء الله، حلوه ومره. وليس الصبر كما غنت له سيدة الغناء العربي أم كلثوم في أغنيتها «للصبر حدود»، فهي تتعلق بالمحبوب الذي أغرقها بكلام ووعود، وانتظرته طويلا في عذاب وهوان وشوق وحنين وظلم. وإن كان مع أم كلثوم حق في قولها أو حكمتها «للصبر حدود»، فعلينا عدم الأخذ بها في حياتنا اليومية، اللهم إذا مر شخص ما بنفس عذابها على غياب الحبيب وتماديه فقط في الوعود الكاذبة المعسولة، فهذا أمر لا يطاق وكذلك فللصبر هنا حدود، لأنه أمر دنيوي، فهي وإن فإن ملأت قلبها كثيرا بالشوق وترضى بظلمه، فهذا أضاع السنون من عمرها حتى نجدها تدعو الى البعد عنه – أي الحب - فالبعاد أرحم بكثير. ثم تمر الكلمات حزينة وجريحة علي قلبها الملتاع، حتى تصل إلى لب الأسى «خلصت الصبر معاك». وللصبر حدود هنا حالة خاصة، لأن المقابل هجر ونسيان وبعاد وأوهام، وليس حبا صادقا. فالحب العذري له ثقافة خاصة، والإنسان الذي يحب ويخلص في حبه يمنح صاحبه الوقت لفهمه والتجاوب معه، ولكن أن يتعلق بأوهام فهذا خطأ.

كاتب ومحلل سياسي بحريني