الإصلاح في أوروبا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٧/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤٠ ص
الإصلاح في أوروبا

مايكل سبنس

انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية إلى ما كان متوقعاً إلى حد كبير: فقد احتل إيمانويل ماكرون الوسطي المركز الأول بحصوله على 24% من الأصوات، متفوقاً بفارق بسيط على زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي حصلت على 21.3% من الأصوات. ولو لم يقع حادث سياسي من قبيل ذلك الذي مُني به المرشح المحافظ السابق الذي كان يتقدم السباق فرانسوا فيون، فإن فوز ماكرون في الجولة الثانية ضد لوبان في السابع من مايو يكاد يكون مؤكداً. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي بات في مأمن ــ في الوقت الحالي. فمع اقتراب ماكرون المؤيد للاتحاد الأوروبي من الوصول إلى قصر الإليزيه كما تشير الدلائل ــ أعلن مرشحو المؤسسة على جناحي اليمين واليسار الذين خسروا الجولة الأولى تأييدهم له بالفعل ــ يبدو أن التهديد المباشر للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو انحسر الآن. ولكن هذا ليس وقت الاستسلام للشعور بالرضا عن الذات. فما لم تعكف أوروبا على معالجة أوجه القصور التي تعيب أنماط النمو وتسعى إلى إجراء إصلاحات عاجلة، فيكاد يكون من المؤكد أن المخاطر التي تهدد بقاءها في الأمد الأبعد سوف تستمر في التصاعد.

وكما لوحظ في الكثير من الأحيان، فإن الانتخابات الفرنسية، مثلها كمثل مناسبات انتخابية رئيسية أخرى خلال العام الفائت، تمثل رفضا للأحزاب السياسية الحاكمة: فقد حل فيون من الحزب الجمهوري في المرتبة الثالثة بنحو 20% من الأصوات، وبينوا هامون من الحزب الاشتراكي في المرتبة الخامسة بأقل من 6.5% من الأصوات. من ناحية أخرى، فاز جان لوك ميلينشون اليساري المتشكك في أوروبا بنحو 19.5% من الأصوات، مما يجعل الحصة الإجمالية من الناخبين الذين اختاروا مرشحين من أحزاب غير تقليدية ــ لوبان، وماكرون، وميلينشون ــ نحو 65%.
وعلى خلاف تصويت العام الفائت في المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وكل منهما كان مدفوعا بأبناء الطبقة المتوسطة من الناخبين في منتصف العمر، قاد الشباب في فرنسا الطريق في رفض المؤسسة. فبين الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 34 سنة، حصل ميلينشون ــ الذي رفض حتى الآن تأييد ماكرون للجولة الثانية ــ على نحو 27% من أصواتهم. وكانت لوبان المرشحة الثانية الأكثر شهرة بين الناخبين الشباب، وخاصة الأقل تعليما. ولا يقتصر هذا الاتجاه على فرنسا. ففي إيطاليا، تفوقت حركة النجوم الخمسة المتشككة في أوروبا والمناهضة للمؤسسة على الحزب الديمقراطي من يسار الوسط في استطلاعات الرأي الأخيرة، وقد شكل الشباب نسبة كبيرة من هذا الدعم. على نحو مماثل، في الاستفتاء الإيطالي في ديسمبر الفائت شكل الناخبون الأكثر شبابا حصة كبيرة من التصويت ضد الإصلاحات الدستورية ــ وفي الأساس التصويت ضد رئيس الوزراء ماتيو رينزي آنذاك، والذي علق بقاءه السياسي على تبنيهم.
وحتى في مواجهة الأداء الاقتصادي الضعيف المتدهور، ربما يكون هناك حد أعلى بطبيعة الحال للدعم الذي قد تتمكن الأحزاب الشعبوية من حشده ــ وهو مستوى لا يرقى إلى التفويض الحاكم. ولكن اكتساب الأحزاب والمرشحين الذين يرفضون الوضع الراهن المزيد من الأرض، وخاصة بين الشباب، يعكس استقطابا سياسيا عميقا يعمل على توليد تحديات في الحكم على النحو الذي ربما يعرقل الإصلاح.
بيد أن الإصلاح هو على وجه التحديد ما يلزم لمعالجة هذه الاتجاهات، التي تعكس مشاكل أساسية في أنماط النمو السائدة اليوم. ففي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، كان النمو بطيئا للغاية، والبطالة مرتفعة، والبطالة بين الشباب أعلى. وفي فرنسا، اقترب معدل البطالة بين الشباب من 24%، وهو يتجه نحو الانخفاض ولكن ببطء. وبلغ معدل البطالة بين الشباب في إيطاليا نحو 35%، وفي إسبانيا تجاوز 40%.
صحيح أن بعض البلدان لديها أنظمة متينة للضمان الاجتماعي، ولكن هذه الأنظمة تحمي العمال القائمين في سوق العمل بالفعل أكثر من حمايتها للداخلين الجدد. ومن الواضح أن الإصلاحات التي جرى تنفيذها من أجل تيسير الدخول إلى سوق العمل لا تكفي في سياق النمو الإجمالي الضعيف.
وفي غياب إصلاحات أكثر عمقا، تشير الحسابات الديموغرافية إلى أن نسبة المحرومين والمناهضين للمؤسسة بين السكان ربما تنمو (ما لم يغير شباب اليوم اتجاهاتهم مع تقدمهم في العمر). والسؤال الآن هو ما إذا كان هذا الاتجاه قد يؤدي إلى تعطيل حقيقي للوضع الراهن أو لا يُفضي إلا إلى الاستقطاب السياسي الذي يضعف من فعالية الحكومة.
يبدو حل المحن الاقتصادية الأوروبية واضحا: الاستعانة بمجموعة من الإصلاحات التي تعمل على تشجيع أنماط نمو أكثر نشاطا وشمولية. ففي حين تؤدي العولمة والتكنولوجيا إلى إزاحة الوظائف، يستطيع النمو الكافي أن يضمن استدامة تشغيل القوى العاملة في الإجمال. ولتحقيق هذه الغاية، يستلزم الأمر تنفيذ الإصلاحات على المستوى الوطني وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن كل دولة في الاتحاد الأوروبي تتمتع بسمات خاصة بها، فإن بعض حتميات الإصلاح المشتركة تبدو واضحة. على وجه الخصوص، ينبغي لكل الدول أن تعمل على الحد من الجمود الهيكلي، الذي يعرقل الاستثمار ويعوق النمو. ولتعزيز المرونة، لابد أن تكون أنظمة الضمان الاجتماعي منفصلة إلى حد كبير عن الوظائف والشركات والقطاعات، وأن تعيد البناء حول الأفراد والأسر والدخل ورأس المال البشري.
تتسم بقية أجندة الإصلاح المحلي بالتعقيد، ولكن هدفها بسيط: تعزيز استثمارات القطاع الخاص. وتحت هذا العنوان الرئيسي هناك بنود مثل الإصلاح التنظيمي، وتدابير مكافحة الفساد، واستثمارات القطاع العام، وخاصة في التعليم والبحوث.
على المستوى الأوروبي، جاء التطور الأكثر أهمية متمثلا في ضعف اليورو في مقابل أغلب العملات الرئيسية، والدولار الأمريكي خاصة، منذ منتصف العام 2014. وقد تسبب هذا في تراكم فائض كبير لدى منطقة اليورو، كما ساعد في استعادة بعض القدرة التنافسية في القطاعات القابلة للتداول في فرنسا وأسبانيا وإيطاليا. وفي هذه الدول الثلاث، تشكل السياحة قطاعا مهما لتشغيل القوى العاملة وتحسين ميزان المدفوعات، وكانت النفقات هناك في ارتفاع عند قياسها باليورو.
بطبيعة الحال، تسبب ضعف اليورو في تكدس فوائض كبيرة لدى ألمانيا وشمال أوروبا، حيث تكاليف وحدة العمل أقل نسبة إلى الإنتاجية. وفي الأمد الأبعد، يستلزم الأمر التقارب بين تكاليف وحدة العمل في الدول المختلفة. ولكن هذا سوف يستغرق بعض الوقت، وبشكل خاص في بيئة تتسم بانخفاض معدل التضخم. وفي الوقت نفسه، ربما يساعد اليورو الضعيف في تحفيز النمو.
ويتطلب الأمر أيضا التحرك على مستوى الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، التي برزت بوصفها قضية اقتصادية وسياسية كبرى. ففي مواجهة تدفقات كبيرة من اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا ــ التدفقات التي تتجاوز القدرة الاستيعابية للعديد من الدول ــ ربما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تعديل ضوابط حرية تنقل البشر لفترة من الوقت.
تُعَد فرنسا الدولة الأكثر أهمية في منطقة اليورو بعد ألمانيا. وإذا تعاملنا مع انتصار ماكرون باعتباره فرصة لملاحقة إصلاحات قوية تستهدف تعزيز النمو وتشغيل القوى العاملة، فربما ترقى الانتخابات الفرنسية إلى نقطة تحول بالغة الأهمية لأوروبا. أما إذا تعاملنا معها على أنها وسيلة لإضفاء المصداقية على الوضع الراهن، فلن تُفضي إلا إلى إمهال الاتحاد الأوروبي المنكوب بعض الوقت.

حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد

بكلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك.