أين نقيم جدار ترامب؟

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٣/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص

ريكاردو هوسمان

تُرى ما هو القاسم المشترك الذي يجمع بين هانتسفيل (ولايا ألاباما)، وبرينستون (إنديانا)، وجورج تاون (كنتاكي)، وبلو سبرينجز (ميسيسيبي)، وسان أنطونيو (تكساس)، وبافالو (ويست فرجينيا)، وجرير (ساوث كارولينا)؟ إنها المواقع التي بنت فيها شركة تويوتا وشركة بي إم دبليو مصانعهما في الولايات المتحدة. ولا تقع أي من هذه المدن في حزام الصدأ -منطقة المدن الصناعية التي تمتد من ميتشيجان إلى شرق بنسلفانيا- إذ كان قسم كبير من صناعة السيارات والصناعات الموردة لها يقع تقليديا.

من الواضح أن أسباب انحدار حزام الصدأ في الولايات المتحدة لم تكن محصورة بالكامل في تصرفات الصين والمكسيك. بل كان ذلك راجعا أيضا إلى الانتشار الجغرافي لصناعة السيارات في مناطق أخرى من الولايات المتحدة، خارج التجمعات التي تركزت فيها في الأصل. ولم يكن هذا التحول ناجما عن نقل شركة جنرال موتورز لمصانعها، بل كان لأنها خسرت حصتها لصالح تويوتا، ونيسان، وهوندا، وهيونداي، وبي إم دبليو، ومرسيدس بنز.

بطبيعة الحال، لا تخفف الإشارة إلى هذه الحقيقة من آلام المتضررين. ولكنها تغير الآثار المترتبة على السياسات والدروس المستقاة من مثال الولايات المتحدة صالحة في مختلف أنحاء العالَم.
حتى الآن، لاحق القائمون على الأمر نهجين لمساعدة المجتمعات المتأثرة بهذه الظاهرة. يتجسد الأول في برنامج مساعدات التكيف التجاري في الولايات المتحدة، والذي يزود العمال المتضررين بالمنافسة الدولية بالدعم المالي لإعادة التدريب، والبحث عن عمل، وإعادة التوطين، وصيانة الدخل، والتأمين الصحي. ويتلخص النهج الثاني في توفير الحماية التجارية للصناعات المتضررة، كما وَعَد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ومن غير المرجح أن يساعد أي من النهجين حزام الصدأ. ذلك أن أي نجاح اقتصادي يتأثر بشكل كبير بأداء تلك الشريحة من الأنشطة التي يمكنها بيع إنتاجها لأطراف خارجية. وما يصدق على الدول يصدق أيضا على الولايات، والمدن، والبلدات، شريطة أن نعيد تعريف ماذا نعني عندما نقول البيع لأطراف خارجية. إذ إن أنشطة «التصدير» هذه تخلف تأثيرا كبيرا ومضخما على نمو الاقتصاد المحلي ككل.
يتعين على كل منطقة جغرافية أن تشتري منتجات لا تصنعها وتدفع ثمنها عن طريق بيع بعض الإنتاج الذي تصنعه لأطراف خارجية. ولكن الأطراف الخارجية لديها خيار الشراء من آخرين. ولهذا، تواجه أنشطة «التصدير» هذه مستوى من المنافسة لا يواجهه البقال أو المقهى أو الحلاق المحلي.
علاوة على ذلك، يوجد الدخل الذي يجلبه «المصدرون» إلى المجتمع تأثيرا مضاعفا ضخما. فعندما يغلق أحد المناجم أبوابه، لا تقتصر النتيجة على عمال المناجم الباحثين عن العمل، بل يخرج أيضا البقال وصاحب المقهى والحلاق من العمل، ويرحل الجميع، ويتحول المكان إلى مدينة أشباح.
وإغلاق صناعة ما ليس السبب الوحيد لمثل هذا الانقطاع. فذات يوم، كان هناك العديد من سلاسل المتاجر الصغيرة نسبيا وغير ذلك من تجار التجزئة، وكانت مقار هذه السلاسل منتشرة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة والمنافذ في عدد من المدن. وقد جلبت هذه المقار الدخل إلى المدن المقامة بها من خلال توفير خدمات المكاتب الخلفية لشبكة من المتاجر.
ولكن توطد قطاع التجزئة، مدفوعا بشكل جزئي بشركات مثل والمارت وأمازون، وجه ضربة قاضية للعديد من هذه الشركات. ذلك أن التأثير عل المجتمعات المحلية حيث كانت مقار متاجر التجزئة هذه لم يكن أقل تدميرا من إغلاق منجم: فقد توقفت أنشطة «التصدير» وتقلصت المدن بمضاعف كل وظيفة مفقودة في «التصدير». وكان مصير محلات تأجير الفيديو، وسلاسل بيع الكتب، والصيدليات، ومتاجر تحسين المساكن، ومحلات الإلكترونيات والكاميرات، وما إلى ذلك، نفس مصير العربة والحصان. في بداية العام 2017، بلغ عدد متاجر والمارت في الولايات المتحدة 5332 متجرا. وهي تتخذ من بنتونفيل في ولاية أركنساس -إذ توظف أكثر من 18 ألف عامل- مقرا لها.
من الواضح أن الحماية التجارية غير مفيدة إذا كانت ديترويت تتنافس مع بلو سبرينجز في المسيسيبي. كما لا تساعد التعريفات الجمركية أولئك الذين أصبحوا باحثين عن عمل بسبب إفلاس بلوكبوستر فيديو، أو بوردرز بوكس، أو كومب يو إس ايه، أو سيركت سيتي، أو بايليس، أو متاجر فيرجين الكبرى. ومن ناحية أخرى، سجل تشغيل القوى العاملة في أمازون نموا بنسبة 47 % على مدار العام الفائت، لكي يصل إلى 341 ألف شخص. ولكن مع تركز توظيف شركة أمازون في كاليفورنيا وتكساس وواشنطن، فإن جغرافية هذه الوظائف تختلف تماما عن جغرافية تلك التي تحل محلها.
وكما هو الحال مع إعادة التوطين جغرافيا لوظائف التصنيع في الولايات المتحدة، فإن مساعدات التكيف التجاري ليست حلا لهذا النوع من الاعتلال. ففي حين تستهدف مساعدات التكيف التجاري الأفراد المتضررين بشكل مباشر بالمنافسة الأجنبية، فإن قدرا كبيرا من المنافسة التي تواجهها الاقتصادات المحلية ليست قادمة من الخارج، والعديد من الوظائف المفقودة ليست في صناعات متضررة بشكل مباشر بمنافسة من الخارج، بل منافسة من الاقتصاد المحيط. ولا يستفيد المتخلفون عن الركب في المدن المتقلصة من تسهيل عملية إعادة توطين الأفراد.
مع تعطل الصناعة تلو الأخرى بفِعل التغير التكنولوجي، يُصبِح من الصعب تجنب الكثير من هذه الآلام. ولكن التدخلات على المستوى الفردي لا بد أن تستكمل بالمساعدات على مستوى الاقتصادات المحلية. ولا بد أن يكون الهدف واضحا: فمع تعطل الصناعات «التصديرية» لمدينة ما، لا بد أن تحل محلها أنشطة «تصديرية» أخرى، خشية أن تتقلص المدينة وتصبح فقيرة. ويسلط هذا الضوء على الحاجة إلى ما أسمته رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي «استراتيجية صناعية حديثة»، تستهدف «توفير فرص العمل والنمو الاقتصادي لكل مجتمع وزاوية في البلاد»، وذلك «لضمان استفادة الجميع من التجارة والعولمة».
يتطلب تحقيق هذه الغاية وضع مجموعة جديدة من السياسات المفصلة لكل مكان بعينه. وليس المقصود من هذا دعم الصناعات المحتضرة، بل زيادة معدل ولادة الشركات الجديدة وتقليل معدل الوفيات بين الشركات الوليدة في الصناعات التي يمكنها أن تحل محل الصناعات القديمة، وخاصة تلك التي يمكن بيعها لأطراف «خارجية»، على النحو الذي يعيد ربط كل موقع بأسواق خارجية ومتزايدة العالمية.
في كتابهما الأخير بعنوان «أذكى الأماكن على الأرض»، يوثق أنطوان فان أجتميل وفريد باكر كيف يحدث هذا بالفعل في أجزاء من منطقة حزام الصدأ في الولايات المتحدة، إذ نجحت العديد من المدن -مثل أكرون، أو أوهايو، أو ألباني في نيويورك- في تجديد نفسها. وهذه الأماكن لا تتعافى فحسب، بل إنها أيضا، كما نعلم الآن من كيفية تصويتها في نوفمبر الفائت، غير مقتنعة بأجندة ترامب القائمة على بناء الجدران.

وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا