الخروج البريطاني الآمن

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٢/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٢٤ ص
الخروج البريطاني الآمن

هوارد ديفيز

جاء التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليطلق قطاً جائعاً بين الحمائم المالية في حي المال والأعمال في لندن. ولا أحد يعلم حتى الآن نوعية التعامل التي ستتاح للشركات العاملة في بريطانيا مع السوق المالية الأوروبية الموحدة بعد الخروج من الاتحاد، لاسيما بعد أن أضفت دعوة رئيسة الوزراء تيريزا ماي لانتخابات عامة في الثامن من يونيو المقبل مزيداً من الضبابية على المشهد ــ على المدى القريب على الأقل. لكن يظهر هنا افتراض مزعج وملح بأن الأمور لن تبقى على حالها، وأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون له ثمن حتماً.

لذا تستعرض الآن شركات الخدمات المالية العاملة في بريطانيا خياراتها المتاحة، خاصة تلك الشركات التي اختارت لندن مقراً رئيسياً لها في أوروبا لهدف محدد وهو ضمان حرية الوصول للسوق الأوروبية كلها من موقع واحد. في الواقع، يجبر المنظمون الشركات على فعل ذلك بتساؤلهم عن كيفية محافظة تلك الشركات على مواصلة تقديم خدماتها لزبائنها حال تنفيذ خروج «صعب» من الاتحاد الأوروبي. (تفضل حكومة ماي الحديث عن خروج «نظيف»، لكن هذا من قبيل الدعاية السياسية).

وقد رأت المراكز الأوروبية المنافسة في ذلك الوضع فرصة لاجتذاب وإعادة بعض الأعمال إلى القارة (أو إلى أيرلندا). فلطالما استاءت الحكومات الأخرى من هيمنة لندن، إذ كان الاضطرار للاعتراف بوقوع المركز الرئيس للتداول بسندات اليورو خارج منطقة اليورو من الأمور المثيرة لحنق تلك الحكومات.
منذ سنوات قليلة فقط، حاول البنك المركزي الأوروبي الإصرار على أن تجري مقاصة أو تسوية سندات اليورو داخل نطاق اختصاصاته، لكنه مُنع من فعل ذلك بموجب حكم من محكمة العدل الأوروبية. ومن المثير للسخرية بعض الشيء أن يكون إخراج بريطانيا من نطاق سلطة محكمة العدل الأوروبية هدفاً رئيساً لماي الآن.
وبالتالي تقاطر الوفد تلو الآخر من الوزراء والعُمَد وأعضاء مجموعات الضغط من المراكز المالية المختلفة إلى لندن لتكتظ بهم أفضل فنادقها، وليحدثوا انتعاشة جيدة في تجارة المطاعم الفخمة. وقدمت لوكسمبورج وفرانكفورت ودبلن وغيرها عروضا تقديمية براقة عن المزايا التنافسية لمدنها مقارنة بلندن ومنها: تكلفة ممتلكات أقل، ومعدلات ضريبة أقل على الشركات (وقد يبدو هذا في ظاهره مقنعا عند عرضه باللهجة الأيرلندية)، ومطاعم حائزة على نجوم ميشلان، ووكالات سيارات بورش ــ أي كل الخدمات الأساسية اللازمة لتكوين مركز مالي نشط وناجح.
لكن بعض تلك العروض أثارت ابتسامات ساخرة. على سبيل المثال، نعرف أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند انتُخب على أساس دعواه أنه عدو لعالم المعاملات المالية المرتفعة. لكن رئيس بلدية منطقة باريس الاشتراكي وعد مؤخراً أيّ مدير صندوق تحوط يقوم بشراء تذكرة ذهاب بلا عودة إلى محطة جار دي نور في باريس على متن قطارات يوروستار بــ «سجادة حمراء وبيضاء وزرقاء» ــ في إشارة تهكمية إلى وعد رئيس الوزراء البريطاني الاسبق ديفيد كاميرون باستقبال رسمي على سجادة حمراء للمصرفيين الفرنسيين الهاربين من معدلات الضرائب الباهظة، والإضرابات، وقوانين العمل المقيدة.
فجأة أصبح الجميع يحبون أولئك الذين دمروا تقريبا النظام المالي العالمي في العام 2008. حقا، دوام الحال من المحال.
لقد أثار كل هذا النشاط الترويجي مجددا التساؤل عن مجموعة الخصائص والمميزات الواجب توافرها لأي مركز مالي ناجح. طُرح هذا السؤال مرات عديدة، وجنت شركات الاستشارة الإدارية أموالا كثيرة بتقديم إجابات نظرية غير عملية. فقد أوصت دراسة أجرتها شركة ماكنزي قبل الأزمة لصالح عمدة مدينة نيويورك الاسبق مايكل بلومبيرج باستنساخ الإطار التنظيمي الخاص بلندن، والذي سرعان ما انهار لاحقا. وفي هونج كونج، انتهت مراجعة أجراها مسؤولوها للقوانين التنظيمية الخاصة بهم بهدف التوصل إلى طرق لزيادة جاذبية المدينة للشركات الدولية إلى أن ما تريده الشركات فعلا هو أمران: هواء أنقى ومزيد من المدارس الدولية، وكلاهما لا يقعان ضمن اختصاصات الهيئة النقدية (بل إن قضية تلوث الهواء لا تقع ضمن اختصاصات حكومة هونج كونج بالمرة).
كما أسفرت كثير من الدراسات الاستقصائية التي سألت الشركات عن أسباب اختيارها لموقع معين عن إجابات التفافية، حيث تعزو هذه الشركات سبب اختيارها لمكان بعينه إلى وجود شركات أخرى بنفس المكان، وأنه بذلك يمكنها مباشرة أعمالها بسهولة مع نظيراتها الرئيسية. لكن توجد رغم ذلك بعض الدراسات المترابطة.
وتميل الشركات الأجنبية إلى الشعور بأنها تُعامَل على قدم المساواة مع منافساتها من الشركات المحلية. لذا فإن التنظيم المدفوع بأغراض سياسية يعد سببا لنفورها. كما ترغب هذه الشركات في نظام تحكيم مستقل يدعم حقوق الملكية. كذلك تريد هذه الشركات أن يتاح لها الحصول على القوى العاملة الماهرة.
ولا تزال لندن ونيويورك تؤديان بشكل جيد وفق هذه المقاييس، فقد أظهر أحدث مؤشر للمراكز المالية العالمية، نشرته مؤسسة زد/‏‏ين الشهر الفائت، بقاء لندن على رأس المراكز المالية، متقدمة على نيويورك بفارق طفيف.
بيد أن تصنيف كل من المدينتين شهد هبوطاً حاداً خلال العام الفائت، وتضاءل الفارق بينهما وبين سنغافورة صاحبة المركز الثالث إلى 20 نقطة فقط، بعد أن كان يربو على 30 نقطة العام الفائت. في الواقع، ارتفعت تصانيف كل المراكز المالية الآسيوية تقريبا، وكانت بكين أسرعهم صعودا إذ قفزت من المركز السادس والعشرين إلى المركز السادس عشر.
وإذا نظرنا إلى أوروبا بشكل خاص، سنجد أن لوكسمبورج هي المركز المالي الآخر الوحيد بين العشرين الأُوَل في العالم، إذ تقبع في المركز الثامن عشر، بعد أن هبطت ستة مراكز مقارنة بالعام الفائت. أما فرانكفورت فتحتل المركز الثالث والعشرين، بعد تراجعها أربعة مراكز هذا العام، بينما تظل باريس حبيسة المركز التاسع والعشرين وفق آخر دراستين استقصائيتين. ومن ثمّ يكون بمدينة لندن سبق عظيم في القارة الأوروبية.
فهل يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كافياً لتغيير الصورة بشكل جذري؟ يظل من الصعب القطع بذلك. فإذا تناولنا العوامل الرئيسة التي تهم الشركات، سنجد أنه من المستبعد تغيير الإطار التنظيمي الخاص بلندن والذي لا يميز بين الجنسيات. كذلك لا يُتوقع تغيير نظام التحكيم فيها. ومن ثمّ ينبغي الحفاظ على تلك المزايا.
ومن المحتمل أن يكون توفير القوى العاملة الماهرة عامل الترجيح الوحيد، إذ اعتادت الشركات العاملة في بريطانيا أن تتاح لها إمكانية توظيف عمالة من أنحاء الاتحاد الأوروبي ــ في الواقع تتميز السلطات البريطانية بالمرونة في توظيف عمالة من خارج الاتحاد الأوروبي أيضا. ونظرا لقدرة معظم محترفي المجال المالي الطامحين في أوروبا على تحدث اللغة الإنجليزية بشكل جيد، فقد أتاح هذا للشركات في لندن مجالا واسعا للاختيار.
وسيكون بقاء هذا المجال الواسع لاختيار القوى العاملة بعد تنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي السؤال السياسي الأكبر الذي سيطرحه حي المال في لندن خلال المفاوضات المقبلة. وسيتحتم على شاغل منصب رئيس وزراء بريطانيا المقبل (ربما تيريزا ماي) تقديم إجابة مقنعة، وإلا لن تبقى لندن على قمة المراكز المالية كثيراً.

هاورد ديفيز رئيس مجلس إدارة بنك

اسكتلندا الملكي (رويال بنك أوف سكوتلاند).