إضاءة على متحف المدرسة السعيدية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٧/أبريل/٢٠١٧ ٠٤:٢٤ ص

علي بن راشد المطاعني
ali.matani@hotmail.com

الاهتمام والرعاية الذي توليه كل دول العالم التي لها إرث تاريخي وحضاري عريق وضارب في أعماق الأصالة، لإنشاء المتاحف ليس عبثاً ولن ولم يكن في يوم من الأيام بذخاً أو ترفاً؛ ذلك إن المتاحف كفكرة هي العين المضيئة في ذاكرة الأمم والشعوب، ومن بؤرتها تستطيع الدول أن تربط الأجيال الحاضرة بالماضي التليد للوطن في سياق التسلسل المنطقي لنشوء الحضارات.

وفي إطار هذا المعنى وفي سياق هذه الفكرة جاء إنشاء متحف المدرسة السعيدية بمسقط، بتوجيه من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- ليؤرخ وليوثق لحقيقة رائعة تتسابق الأمم والشعوب في تأكيد الريادة فيها، ألا وهي التعليم باعتباره المدخل الأساسي في الولوج لرحاب التقدم والرخاء. عُمان كانت سباقة في هذا الحقل ولله الحمد فالمدرسة السعيدية تؤرخ لانطلاق مسيرة التعليم الحديثة في السلطنة التي انطلقت بأوامر مباشرة من السلطان سعيد بن تيمور -رحمه الله- عام 1940 فأضيئت في العاصمة العُمانية مسقط شعلة التعليم لتمضي في طريقها ولتكتمل المسيرة التعليمية الهادرة بافتتاح جامعة السلطان قابوس عام 1986.
أعجبني متحف المدرسة السعيدية التابع لوزارة التربية والتعليم والذي تشرحه بسلاسة لمرتادي المتحف الفتاة ردينة بنت عامر الحجرية، مساعدة مدير المتحف لنا بزهو وبحب كبير لعملها، تتفاعل مع ماضي التعليم وتقرّبه للمتجوّلين كأننا نعايشه اليوم، تتوقف مع منعطفات مهمة لتوصل رسالتها، تشرّبت من مناهل العلم في هذا الوطن، وبلسان عربي مبين قصة التعليم في السلطنة وكيف بدأت وكيف تطورت عبر السنين، وبشغف لا يجعلك تعايش مراحله بالمزيد من الإمكانات والعرفان لهذا الإرث.
فهذا المتحف في محافظة مسقط، ليس لسرد ذكريات من الماضي عن بدايات التعليم في البلاد وحسب، إنما يؤرخ لقصة كفاح شعب نفض عن كاهله غبار التخلّف وأزاح دياجير الجهل والأمية عن طريقه، ثم انطلق خلف قيادته ليُعيد بناء هذا الوطن مترامي الأطراف وليسابق الزمن في سرعة الإنجاز وفي إكمال مرافق التنمية المستدامة، فكانت الانطلاقة (التعليم ولو تحت ظل شجرة) تلك كانت توجيهات جلالته عند انطلاق مسيرة النهضة العُمانية الحديثة.
فهذه القصة التاريخية للتعليم في عُمان، لا بد من أن يحتضنها متحف يروي للأجيال العُمانية وغير العُمانية عن كيف كانت بدايات التعليم في عُمان وليستبينوا الفرق ما بين الماضي والحاضر وليوقنوا بعظمة الجهد الذي بُذل في هذا الحقل وليحملوا الراية جيلاً بعد جيل على هدى الآباء والأجداد.
فهذا المتحف يؤرخ ويوثق أيضاً للشخوص الذين تعاقبوا على المؤسسة التعليمية في البلاد منذ بواكيرها تلك البعيدة، وليبقى جميل صنيعهم محفوراً أبداً في ذاكرة كل الأجيال العُمانية المتتالية، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، تلك حقيقة فنحن نقر بفضل ذلك الرعيل الخالد علينا وعلى الوطن، ذلك هو الوفاء في معناه الأسمى.
والمتحف بالتأكيد ليس ككل المتاحف، إنه تأكيد حي وناطق على إرادة شعب آل على نفسه أن يهزم الجهل ويسحق كل أثر للأمية وفي كل شبر من هذا الوطن العزيز، ثم هو يؤكد الإيمان الراسخ بأنه بالعلم والعمل تُبنى الأوطان، ثم إنه يؤكد أيضاً أننا ماضون في هذا الطريق ولن نحيد عنه أبداً وهذا ما تستحقه عُمان بكل إرثها وبكل تاريخها الحضاري وباعتبارها من أقدم الممالك على الإطلاق في شبه جزيرة العرب وبالتالي فهي تحتفي بهذا المتحف باعتباره يجسّد كل تلك المعاني.
إن متحف المدرسة السعيدية بمسقط أعاد تذكيرنا بالمدارس الثلاث التي انطلقت منها شعلة التعليم بالبلاد لتعم بعد ذلك كل ولايات السلطنة وبالتالي لا بد من أن نقف احتراماً للمدرسة السعيدية في مسقط والتي أنشئت العام 1940 كما ذكرنا والمدرسة السعيدية بصلالة والتي أنشئت العام 1936 والمدرسة السعيدية بمطرح والتي أنشئت العام 1959، إذن من هذه المنابر المضيئة انطلقت مسيرة التعليم الماضية بثبات في طريق السؤدد، لتبقى هذه المنارات في عقولنا أبداً، والآن هناك أكثر من 1400 مدرسة تنير عقول أكثر من 650 ألف طالب وطالبة من أبنائنا، ينهلوا من منابعها آخر رحيق العلم والمعرفة، ومن هذه المقارنة نوقن بضخامة الجهد الذي بُذل في هذا الحقل الأهم.
المتحف يحكي أقصوصة أجيال كانوا بالأمس القريب طلاباً صغاراً على مقاعد العلم فإذا هم اليوم في مرافق الدولة ويفخر الوطن بهم وبعطائهم الذي لا تحده حدود من أجل الوطن وللوطن، لقد سطرت تلك الأجيال أسماءها بأحرف من نور في صحائف مدارسنا التاريخية تلك، منهم من حمل لواء النهضة في بداياتها، وسطر في جبين الدهر وبأحرف من ذهب وظل على العهد والوعد مسطراً حقيقة أن الوطن كان عنده في حدقات العيون.
بالطبع متحف المدرسة السعيدية لا يروي إلا جزئية من قصة التعليم في عُمان، فقصة التعليم لا يمكن أن تُختزل في متحف مهما عظم حجمه وزاد اتساعه، لكنه يبلور للأجيال جزئية مهمة وبدايات مرحلة من مراحل نضال هذا الشعب في كسر قيود الجهل وإزالة حواجز الأمية، وينطلق لبناء المستقبل فهو يؤرخ لمرحلة مضيئة ستبقى علامة بارزة في تاريخنا.
فطوبى لهذا المْعَلم الحضاري الذي يؤرخ تاريخ التعليم وملحمته في هذا الوطن العزيز، وعلامة بارزة على قصة هذا الشعب في كسر قيود الجهل والأمية والانطلاق للمستقبل.