انتصار تركي باهظ التكلفة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٤/أبريل/٢٠١٧ ٠٤:٢١ ص
انتصار تركي باهظ التكلفة

سولي أوزيل

كان الاختيار شديد الوضوح أمام الناخبين الأتراك عندما أدلوا بأصواتهم في الاستفتاء على 18 تعديلا دستوريا حصلت جميعها على موافقة الجمعية الوطنية بالفعل. فالتصويت بالموافقة من شأنه أن يغير النظام السياسي في بلدهم ويؤذن بعصر جديد في التاريخ التركي. وبهذا، يُستعاض عن أكثر من قرن من النظام النيابي البرلماني بنظام رئاسي على الطريقة التركية مصمم خصيصا على مقاس شاغل المنصب الحالي رجب طيب أردوجان.

على ضوء الخبرة الكبيرة التي تتمتع بها تركيا في كتابة الدساتير، يرى أغلب الخبراء القانونيين أن هذه التعديلات، التي أقرها الناخبون بفارق ضئيل للغاية، رجعية في أفضل تقدير. ويبدو أن أولئك الذين صاغوا هذه التعديلات تجاهلوا 150 عاما من التاريخ التركي، ناهيك عن الدروس الأكثر جوهرية المستفادة من الديمقراطية الليبرالية.

الواقع أن النظام السياسي الذي سيبدأ العمل به في العام 2019، بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ذلك العام، سوف يلغي منصب رئيس الوزراء ويركز السلطة التنفيذية بين يدي رئيس يقود أيضا حزبا سياسيا. وسوف تفقد الجمعية الوطنية -المؤسسة التي أقامت الجمهورية التركية- الكثير من سلطاتها وصلاحياتها، وسوف تتقلص قدرتها على فرض الضوابط على الرئيس بشدة، لأن الرئيس سيصبح قادرا على حلها في أي وقت.
وعلاوة على ذلك، سوف يحظى الرئيس بصلاحيات قوية تسمح له بالسيطرة على السلطة القضائية أيضا، بفضل التغييرات المقرر إدخالها على الكيفية التي يجري بها تعيين القضاة. وبهذا يتفاقم ضَعف السلطة القضائية الهشة بالفعل، ويُصبِح الفصل بين السلطات بلا أي معنى.
ورغم العواقب الخطيرة المترتبة على الاستفتاء -التخلي عن الإطار السياسي الذي تبنته الجمهورية التركية لفترة طويلة- لم نشهد أي مناقشة جدية أو موسعة قبل التصويت، الذي عُقِد في ظل حالة الطوارئ في أعقاب محاولة الانقلاب في يوليو الفائت. وفي حين تمر تركيا بتغير سياسي بعيد المدى، تسعى السلطة الحالية إلى الترويج لمشروع يقوم على تحول اجتماعي يهدف إلى محو إرث التطبع الغربي الذي يرجع إلى أواخر العصر العثماني.
جاءت الموافقة على التعديلات بعد حملة من البلبلة والتشويش، والتحريف، وتشويه السمعة، والتي اتهمت المعارضين بالارتباط بالإرهابيين، كما هاجمت علنا مسؤولين غربيين، وخاصة قادة الاتحاد الأوروبي. ولكن أردوجان، الذي قاد الحملة، تجنب الدخول في أي مناقشة حقيقية لتبعات حزمة الإصلاح الدستوري، ووعد بدلا من ذلك أن تعمل هذه الحزمة على تعزيز عظمة تركيا.
الواقع أن الحكومة التركية وضعت كل أجهزة الدولة تقريبا -بما في ذلك حكام الأقاليم وأغلب الجهاز البيروقراطي على المستويين الوطني والمحلي- في خدمة الحملة. وقد أسبغت الحكومة على جميع شرائح المجتمع التركي بالحوافز الاقتصادية والعطايا، وكانت وسائل الإعلام الموالية للحكومة موظفة بالكامل لدعم حملة الموافقة على الاستفتاء من خلال تغطية حِسية أحادية الجانب إلى حد السخف. أما أغلب المنافذ الإعلامية الأخرى فقد اختارت -أو أرغمت على اختيار- تقديم تغطية هزيلة.
بالإضافة إلى الحملة التي قادتها الدولة، تعرضت حملة أنصار الرفض لنحو 200 هجمة موثقة على الأقل، وكانت بعض هذه الهجمات عنيفة. وكان أعضاء حزب الشعب الديمقراطي الكردي - وأبرزهم الرئيسان المشاركان، ومسؤولون آخرون في الحزب، والعديد من المديرين المحليين- في السجن منذ نوفمبر.
وفي يوم التصويت، كان القرار المثير للجدال الذي اتخذه المجلس الانتخابي الأعلى في تركيا بقبول بطاقات الاقتراع التي لا تحمل أختاما رسمية على ظهرها سببا في تعظيم المخاوف حول مخالفات التصويت وإلقاء ظلال من الشك على شرعية النتيجة المتنازع عليها بقوة الآن، وإن كان ذلك بلا جدوى. في مجمل الأمر، افتقرت الحملة والتصويت إلى المعايير الدولية الراسخة، كما أشار مراقبو الانتخابات من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
ومع ذلك، قد يتحول فوز أردوجان بفارق ضئيل إلى نصر باهظ التكلفة، نظرا للانقسام المرير الذي أصبحت عليه البلاد الآن. كان التصويت بالرفض مكثفا في المراكز الاقتصادية في تركيا، مثل المنطقة الغربية والمنطقة الساحلية الجنوبية، والجنوب الشرقي الذي تسكنه أغلبية كردية، فضلا عن المدينتين الأكبر في تركيا، إسطنبول والعاصمة أنقرة. وبين المدن العشرين الأكثر أهمية على الصعيد الاقتصادي، صوت الناخبون في 13 مدينة، تمثل نحو 62% من إجمالي الدخل الوطني، بغالبية كبيرة ضد الإصلاحات الدستورية. ولأن هذه المدن تمثل القسم الأعظم من الناتج الاقتصادي والثقافي في تركيا، فإنها تضم الشرائح الأعلى تعليما في البلاد.
وعلى النقيض من هذا، كان معسكر الموافقين يتألف من الأقاليم الريفية المتعصبة والمحافِظة الأقل تعليما، والأقل أهمية على المستوى الاقتصادي. ولا يتماشى هذا مع الأجندة التقدمية التي كانت دوما السبب في نجاح أردوجان في الماضي. وما ينبئنا بالكثير -على المستويين الرمزي والسياسي- أن خصوم التعديلات حملوا إسطنبول، حيث ظهر أردوجان على الساحة الوطنية كرئيس بلدية منتخب في العام 1994.
الواقع أن أردوجان اهتز بوضوح بسبب الفارق الضيق في نتيجة الاستفتاء وانهيار الدعم الذي كان يستند إليه. ولكن باعتباره قائد اللعبة السياسية في أنقرة، فسوف يسعى إلى صياغة الأجندة على هواه، والبقاء على مساره الحالي، من خلال الاعتماد على الاستقطاب المحلي، وربما بخوض مغامرات خارجية جريئة. ومن المؤسف أنه لم يُعط أي إشارة إلى أنه قد يحاول تخفيف حدة التوتر في البلاد. بل على العكس من ذلك، اقترح أردوجان أنه سيعيد فرض عقوبة الإعدام وهي خطوة من شأنها أن تمنع تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قطعا.
يكاد يكون من المؤكد أن نتيجة الاستفتاء ستؤدي إلى تفاقم التحديات المحلية والدولية التي تواجه تركيا، والتي كانت في تصاعد منذ محاولة الانقلاب في يوليو. والخبر السار هنا هو أن الاستعراض القوي من قِبَل معارضي التعديلات وقدرتهم على الحشد من خلال وسائل الإعلام البديلة والمنظمات الصغيرة، حتى وهي تحت الحصار، أثبت أن المجتمع المدني التركي يظل نابضا بالنشاط والحيوية.
ولكن هذه مجرد بداية. ويتعين على أولئك الراغبين في منع تركيا من الانزلاق إلى فخ الاستبداد الانتخابي أن يعملوا الآن على تشكيل حيز سياسي جديد وتوفير بدائل للزعامة. وإذا لم يفعلوا، فسوف يفوز أردوجان في الانتخابات الرئاسية في 2019 ويسارع إلى استخدام سلطاته الموسعة حديثا على نحو من المؤكد أن مكافحته ستكون أصعب كثيرا.

أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قادر هاس في إسطنبول وكاتب عمود لصحيفة هابيرتورك التركية اليومية