الجدار العُماني الصلب «2-2»

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٩/مارس/٢٠١٧ ٠٤:١٥ ص
الجدار العُماني الصلب «2-2»

محمد بن علي البلوشي

مرة أخرى نعود ونطرح السؤال الذي يشغل الآخرين لماذا لا يقبل العُماني الغلو والتمييز؟ الإجابة ببساطة أن الكل احترم الكل، ولم تسع أية سلطة سياسية أو مرجعية دينية إلى التدخل في حياة الناس. لقد امتلك السكان تراثا خاصا بهم وليس من المعقول القضاء عليه أو بسط سيادة تراث على تراث ومنه التراث الديني.. إن الأرض العمانية مليئة بالفنون التقليدية المتنوعة ولا تخلو بقعة جغرافية عمانية من هذا التراث، منه الموسيقي ومنه الغنائي على سبيل المثال، ولا يختص بالرجال فحسب بل بالنساء كذلك، ورغم وجود مجتمعات محلية حصرتها الجغرافيا كالسلاسل الجبلية وضيقت عليها الدائرة التفاعلية مع الآخرين لم يندثر التراث النسائي من التراث الشعبي المؤدى في المناسبات الوطنية والاجتماعية.

إن ملابس النساء دليل آخر على تواصل التراث التقليدي بأزيائه العمانية ومحاكاتها للطبيعة، وتشمل الملابس المزخرفة حتى أسفل الركبة ومن ثم السروال أو البنطال، فالأزياء النسائية العمانية ليست جامدة، فهي تحمل نقوشا وزخرفة وتطريزات تعكس جمالية الثوب النسائي الذي لم يحاصر أو يقمع تحت أي مسمى، ونظرة إلى الملابس النسائية العمانية في العديد من المحافظات فإننا سنجد مدى تأثير البيئة وإبداع المرأة في أزيائها دون تدخل من السلطة الذكورية أو مرجعية أخرى.

العمانيون لم يعتبروا المرأة عورة بل شقيقة لهم، لقد هاجروا وتركوا أطفالهم في عهدة نسائهم وتركوا النساء هن صاحبات الكلمة الأولى والأخيرة في البيت وفي إدارة شؤون البيت والقيام بأدوار اقتصادية دون الحاجة أو الرغبة في استيراد وصية دينية، وكانت المرأة حاضرة في الإرث السياسي التاريخي لعمان بدءا من بيوت الإمامة وفي القضاء إلى العهد الحديث، حيث الحضور القوي لها في كل مفاصل الدولة العمانية والدعم الكبير الذي تلقاه من القيادة السامية والثقة بقدرتها على العطاء والإنجاز.
لماذا لا يقبل العمانيون الغلو والمغالين؟ لقد تجاوزوا الإطار المحلي إلى الإنساني.. هاجروا وتواصلوا مع العالم، فالشواهد كثيرة مثل شارع مسقط في سنغافورة والتاجر العماني النبيل الذي أطلق عليه الإمبراطور الصيني هذا المسمى والمفردات العمانية في بعض دول آسيا ناهيك عن أفريقيا.. وكما قال السفير الكوري الأسبق في عُمان وهو أستاذ تاريخ: «نتمنى أن يزور العُمانيون كوريا كما كان أجدادهم في السابق يتجولون في شوارع سول»، إن تجول العمانيين في شوارع سول يهدف إلى التجارة واستكشاف الرزق خارج عُمان»، وهي طبيعة العماني بسبب الموقع الجغرافي وعيشهم على سواحل يمتد طولها أكثر من 3000 كيلومتر، وتمركز الكتلة السكانية الأضخم على المناطق الساحلية، ومحاولة التغلب على الأرض والطبيعة القاسية وشظف العيش في الداخل إلى العالم الخارجي.
وكما هو معلوم فإن العلاقة بين العُمانيين على اختلاف مشاربهم وأصولهم ومذاهبهم هي علاقة تراحم ومحبة وأخوة، فالسفن التي كانت تشكل القوة الضاربة في المنطقة صنعت في الساحل على أيدي الصناع المهرة في مناطق صناعات السفن وأغلب سكان هذه المناطق هم أصحاب مذهب آخر، لكن الوئام والأخوة على طول تاريخها لم تعترف بهذه الفروقات فكانت مجالا للانصهار الأخوي واحترام الآخر، فكان على متن السفينة الربان من الساحل والنوخذة ربما من الداخل لكن الأخوة هي السائدة وليست نظرة من هذا، وعلى أي مذهب وهو الأمر الذي يحرق ممتهني الفتن والغلو في المنطقة.
الجنود العُمانيون الذي جابوا الأراضي التي وقعت تحت الدولة العمانية كانوا ينظرون إلى بعضهم بروح واحدة متماسكة وليس كما حدث في المحيط في المنطقة بالنظر إلى الفرد من زاوية مذهبية أو دينية، ولم يفرض أحد على الآخر أي إقصاء فالدولة العمانية بدءاً من قديمها إلى حديثها كانت الصمام الآمن على هذه الأخوة التي لم ولن ينفرط عقدها يوما ما.
شهدت عُمان تقاتلا قويا في الماضي، وهي حروب أهلية ذات صبغة عشائرية وليست عرقية أو دينية أو مذهبية، بل تقاتل على فرض النفوذ على الأرض وهو صراع سياسي.. ولذلك فإن الحزبين العشائريين التاريخيين انضوى تحتهما عشائر مختلفة ومن مشارب متنوعة.
كما أن الوئام التاريخي كان حاضرا أيضا بقوة عند اتباع المذاهب الدينية في عُمان ولذلك ظل الكل يتعامل مع الآخر في إطار من الاحترام بل إن حتى تعامل العُمانيون اليوم مع غيرهم هو مثال على ذلك وعلى طبيعة التكوين العماني الذي لا يميل إلى العنف سواء الجسدي أو اللفظي، وإذا ما حدث ذلك فإنه يقابل باستهجان أو يمكن اعتباره استثناء.
إن العُمانيين محصنون بتراث عميق من التمسك بالعيش المشترك ولذلك فإن أي محاولات أو أفكار ضيقة للانقضاض على تراثهم المتنوع الذي يشكل أحد أركان التراث الجمعي هي محاولة يائسة لتصدير الأوهام داخليا وشحنها وإنزالها على رصيف حياة الناس وهي التي أصابت محيطات وأقاليم كثيرة بالتصدع والشقاق.
ومن الأهمية بمكان في ظل الغموض الذي يحيط بمصير المنطقة خلال السنوات المقبلة وتزايد العداء المذهبي أو الطائفي في هذه المنطقة أن يعمل العمانيون جنبا إلى جنب على إبقاء صفوفهم متراصة متماسكة وأن تعمل المناهج على ردم أي هوة وسد أي ثغرة يمكن أن تتسلل إليها رياح الفتنة، كما أن على مؤسسات المجتمع المهمة وأهمها الأندية ودور العبادة أن تتبنى البرامج التي تنمي مدارك الإنسان الثقافية والفكرية وزيادة جرعات التفاعل الشبابي في المجتمع المحلي مثل العمل التطوعي والبرامج الهادفة كتعليم اللغات ودورات الحاسب الآلي وتنشيط الجانب المسرحي والاهتمام بالعلوم والرياضيات وتنمية الفنون الإبداعية كالفنون التشكيلية والموسيقية وكذلك تنمية المهارات المهنية في المدارس بجانب تفعيل النشاطات الأخرى وجعلها تفاعلية مع المجتمع مع مراجعة مستمرة وتنقيح للمناهج الدينية وتغذيتها بكل عوامل اليسر حتى يظل الجدار العماني كما كان منذ البدء إلى البعث صلبا متماسكا وراسخا.