مكــاسب التـنــوع في جنوب أفريقيا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٨/فبراير/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
مكــاسب التـنــوع 
في جنوب أفريقيا

محمد عبدالله العريان

بعد زيارة ممتعة وذاخرة بالمدارك والرؤى إلى جنوب أفريقيا -وهي أولى زياراتي إلى هذا البلد الجميل منذ خمسة عشر عاما- أرحل عنها الآن وقد تملكتني مشاعر مختلطة. ففي ضوء عملية التطور الاقتصادي والسياسي الجارية في البلاد، يراود الأمل أولئك الذين يقيمون هنا، فضلا عن المراقبين المهتمين مثلي، في حين يساورهم في الوقت نفسه القلق بشأن المستقبل.

قبل ربع قرن من الزمن، شرعت جنوب أفريقيا في تنفيذ تحول غير عادي بعيدا عن ما يقرب من خمسين عاما من الفصل العنصري الخانق، باتباع رؤية نيلسون مانديلا القائمة على المبادئ والمتمثلة في شعار «اصفح ولكن لا تنسى أبدا».

وعندما حصلت الأغلبية من ذوي البشرة السوداء أخيرا على الحق في إبداء الرأي في الحكم، انتخبت جنوب أفريقيا حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي، التي نجحت من خلال الامتناع عن مصادرة وتأميم الممتلكات الخاصة التي اقتنتها الأقلية المميزة في تمييز البلاد عن دول أخرى كثيرة، في أفريقيا وأماكن أخرى، والتي أفلتت من نير الحكم الاستعماري القمعي.
فقد اعترفت الحكومة بقيادة مانديلا بالتنوع في البلاد كمصدر محتمل للوحدة والرفاهة الإنسانية طويلة الأمد، فقررت ملاحقة نهج شامل على نحو لافت للنظر. وقد ألهم هذا النموذج كثيرين آخرين خارج جنوب أفريقيا، وخاصة في الدول التي لا تزال تحكمها أنظمة استبدادية تستخدم تكتيكات الخوف للإبقاء على قبضتها على السلطة. وأثبت نهج مانديلا أن التحولات المنظمة الشاملة ممكنة، وأن أنصار الحرية الذين أُخضِعوا للقمع والسجن من قَبل قادرون على تحويل أنفسهم لتشكيل حكومة شرعية وفعّالة.
بيد أن نتائج التحول في جنوب أفريقيا لا تزال بعيدة عن الكمال. فاليوم، لا يزال النمو غير شامل بالقدر الكافي وبطيئا للغاية، وكان نمو الناتج المحلي الإجمالي في العام الفائت إيجابيا بالكاد. ويُعَد مُعامِل جيني للبلاد واحدا من الأسوأ في العالَم، والذي يعكس مستويات صارخة من عدم التفاوت في الدخل، ومعدل الباحثين عن العامل، الذي بلغ 26.5 %، مرتفع بشكل مقلق للغاية، وأكثر المتضررين به هم الشباب، ولا يزال الكثير من الناس عالقين في دائرة الفقر الكارثية المشؤومة.
لقد ساهم سوء الإدارة بلا أدنى شك في الوصول إلى هذه الحال المخيبة للآمال، والتي لا ترقى إلى المستوى الذي تصوره مانديلا لبلاده التي أحبها. فبين أمور أخرى، أساءت الحكومة إدارة الموارد المالية العامة، وتعثرت في ملاحقتها لنموذج نمو اقتصادي جديد. وفي الوقت نفسه، أضاف انخفاض أسعار السلع الأساسية في السنوات الأخيرة إلى التحديات الاقتصادية والنقدية التي تبتلي اقتصاد البلاد.
وفي ظل الأداء الذي كان أقل كثيرا من الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها البلاد، عانت الجهود الرامية إلى «تمكين السود اقتصاديا» والتي كان الهدف منها تقليص أشكال التفاوت التاريخية. ولكن أوجه القصور التي عابت القطاع العام، والتي أصبحت أشد وضوحا وأكثر قابلية للفهم مؤخرا، لم تكن السبب الوحيد وراء هذا. فهناك مشكلة أخرى أقل وضوحا، وهي أن الجهود التي تبذلها الشركات الخاصة لضمان التنوع لم تكتسب القدر الكافي من الثِقَل والتأثير.
الواقع أن شركات جنوب أفريقيا ليست الوحيدة التي تناضل في هذا السياق. فلا يزال قسم كبير من مجتمع الأعمال في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في الغرب، يحاول التوصل إلى كيفية إنجاح برامج الدمج والتنوع، بما في ذلك ما يتصل بتوفير تكافؤ الفرص التي لا تزال تميل ضد المرأة.
وقد أظهرت الأبحاث أن الشمول والدمج من العناصر المفيدة للأعمال. ونتيجة لهذا، تدرك العديد من الشركات الغربية أن إدخال المزيد من التنوع على عملية اتخاذ القرار عند أغلب المستويات من شأنه أن يعمل على تعزيز مرونتها وقدرتها على التحرك بخِفة. ولكنها لا تزال تكافح من أجل التغلب على النقاط العمياء والتحيزات، سواء الواعية أو غير الواعية، النابعة من العقبات البنيوية والسلوكية التي تواجه النساء، وخاصة عندما يحاولن بلوغ المناصب العليا التي هن مؤهلات لها بالقدر الكافي.
وكما أوضحت ماهزرين باناجي من جامعة هارفارد على سبيل المثال، تقع الشركات ضحية النقاط العمياء والتحيزات غير الواعية لمجموعة متنوعة من الأسباب. وتشمل هذه الأسباب الطريقة التي تطورت بها أدمغتنا، وما نتعرض له من تجارب في طفولتنا، والتفاعلات التاريخية، والطرق المختصرة الحدسية التجريبية التي نسلكها من دون وعي لتفسير المعلومات وتأطير القضايا. وتتطلب مواجهة هذه العوامل أن تتعرف الشركات على كيفية الحفاظ على حالات الوعي والفهم العالية التي تسلط الضوء على مثل هذه التحيزات.
لم يعد بوسع الشركات في جنوب أفريقيا، وبشكل خاص الشركات العاملة في القطاع المالي، أن تكتفي بالكلام المعسول عن الشمولية والإدماج. بل يتعين عليها أن تعمل على تنفيذ برامج للتحفيز السلوكي، وتعديل هياكل الشركات من أجل تشجيع المزيد من الشمولية، والسلوكيات القائمة على الجدارة. ويتعين على كِبار المسؤولين التنفيذيين وفِرَق الإدارة العليا أن تعمل على تجديد عملياتها، وتذكير الزملاء بالحجة القوية لصالح التنوع في عالَم الأعمال، وبذل جهود أقوى كثيرا لاكتشاف وتدريب وإرشاد الأفراد الموهوبين من مختلف الأجناس والأعراق. وعلى وجه التحديد، ينبغي لها أن تعمل على توسيع برامج المتدربين والمهنيين الفردية والجماعية، وتحديث طرق قياس الأداء، وتكثيف الجهود لضم البحوث الحديثة حول فوائد التنوع المعرفي والتراكم في الاتصالات الداخلية والخارجية.
ينبغي لنا جميعا أن نكون على أهبة الاستعداد في مواجهة مخاطر المؤثرات العتيقة التي تتحكم في سلوكياتنا وقراراتنا. وكما زعمت في كتابي الأخير اللعبة الوحيدة في المدينة، «لن تتمكن أي شركة، أو أي دولة بكل تأكيد، من جني ثمار إمكاناتها القابلة للتحقق إذا فشلت في احتضان وتمكين الموهبة البشرية بصرف النظر عن الجنس والعِرق والثقافة والتوجه الجنسي ووجهة النظر.
تحتاج جنوب أفريقيا إلى ما هو أعظم كثيرا من تحسين الإدارة الاقتصادية إذا كان لها أن تتغلب على التحديات وتطلق العنان لكامل إمكاناتها في ظل اقتصاد عالمي تحيط به الشكوك على نحو متزايد. وبدلا من الانتظار إلى أن يفعل الساسة أي شيء حيال ذلك، ينبغي لشركات جنوب أفريقيا أن تعمل على تعميق التحامها مع شرائح متزايدة الاتساع من السكان. ولن يُفضي القيام بهذا إلى تحسين الإنتاجية والقدرة التنافسية ونتائج الأعمال فحسب بمرور الوقت، بل وسوف يساعد أيضا في الحد من العنف الذي يصاحب التهميش واليأس والتغريب.

كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز وكان رئيسا لمجلس الرئيس الأمريكي باراك

أوباما للتنمية العالمية