اقتصاديون يعيشون حالة الإنكار

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٧/فبراير/٢٠١٧ ٠٤:١٠ ص
اقتصاديون يعيشون حالة الإنكار

روبرت سكيدلسكي

في أوائل الشهر الفائت، اعتبر كبير خبراء الاقتصاد في بنك إنجلترا أندي هالدين «السلوك غير العقلاني» مسؤولاً عن فشل نماذج التنبؤ التي استعان بها البنك مؤخراً. فكان الفشل في رصد هذا السلوك غير المتعقل سبباً في دفع صنّاع السياسات إلى التنبؤ بأن الاقتصاد البريطاني سيتباطأ في أعقاب الاستفتاء على الخروج البريطاني في يونيو الفائت. ولكن بدلاً من ذلك، انغمس المستهلكون البريطانيون في نوبة من الاستهلاك الطائش منذ التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ وتعافت أنشطة البناء والتصنيع والخدمات.

ولا يقتصر الأمر على هالدين أو بنك إنجلترا. فما يعنيه خبراء الاقتصاد التقليديون بالسلوك العقلاني ليس هو نفس ما تعنيه أنت أو أعنيه أنا. ففي اللغة العادية، السلوك العقلاني هو المعقول في ظل هذه الظروف. ولكنه في عالَم مخلخل من نماذج التنبؤ «النيوكلاسيكية»، يعني أن الناس، المجهزين بمعرفة مفصلة عن أنفسهم ومحيطهم والمستقبل الذي يواجهونه، يتصرفون على النحو الأمثل لتحقيق أهدافهم. أي أن التصرف بعقلانية يعني التصرف بطريقة تتفق مع نماذج الاقتصاديين للسلوك العقلاني. وفي مواجهة سلوك مخالف، يستجيب الاقتصاديون كما الخياط الذي يلومه الزبون لأن البذلة التي خاطها له حديثاً لا تناسبه.

غير أن الحقيقة اللافتة للنظر هي أن التوقعات التي تستند إلى مقدمات وافتراضات أساسية غير واقعية ربما تكون مفيدة تماماً في كثير من المواقف. والسبب هو أن أغلب الناس ينشئون عاداتهم. ولأن تفضيلاتهم وظروفهم لا تتغيّر في الواقع من يوم إلى آخر، ولأنهم يحاولون الحصول على أفضل صفقة عندما يتسوقون، فسوف يُظهِر سلوكهم درجة عالية من الانتظام، الأمر الذي يجعل التنبؤ به ممكناً. ولن تحتاج إلى خبرة اقتصادية كبيرة لكي تعرف أنه إذا ارتفع سعر «ماركتك» المفضلة من معجون الأسنان فمن المرجح أن تتحول إلى «ماركة» أرخص.
تستخدم نماذج التنبؤ التي تستعين بها البنوك المركزية نفس المنطق في الأساس. على سبيل المثال، توقع بنك إنجلترا (مصيباً) انخفاض سعر صرف الجنيه الإسترليني في أعقاب التصويت على الخروج البريطاني. وهذا من شأنه أن يدفع الأسعار إلى الارتفاع- وبالتالي تباطؤ الإنفاق الاستهلاكي. ولا يزال هالدين يعتقد أن هذا سيحدث؛ وكان خطأ بنك إنجلترا راجعاً إلى سوء «التوقيت» وليس سوء التحليل المنطقي.
وهذا يعادل القول إن التصويت على الخروج البريطاني لم يغيّر شيئاً جوهرياً. أي أن الناس سيستمرون في التصرف كما يفترض النموذج تماماً، ولكن في ظل مجموعة مختلفة من الأسعار. ولكن أي تنبؤ يستند إلى أنماط متكررة من السلوك لا بد أن يفشل عندما يحدث شيء جديد حقاً.
تتسبب التغيّرات غير الروتينية في دفع سلوكيات غير روتينية. ولكن التصرف بشكل غير روتيني لا يعني اللاعقلانية. بل يعني بلغة الاقتصاد أن العوامل المتغيّرة تحوّلت. وقد اختفى التأكيد على أن الغد سيكون أشبه باليوم.
فقد اعترف بنك إنجلترا بأن الخروج البريطاني من شأنه أن يوجِد فترة من عدم اليقين، ولن تكون هذه الفترة مفيدة للأعمال. ولكن الوضع الجديد الذي أوجده الخروج البريطاني كان في حقيقة الأمر مختلفاً تمام الاختلاف عن توقعات صنّاع السياسات الذين كانت آذانهم مضبوطة بالكامل تقريباً على موجة مدينة لندن. فبدلاً من الشعور بتدهور الأحوال (كما ينبغي لهم «عقلانياً»)، يعتقد أغلب الذين صوّتوا لصالح «الخروج» أن أحوالهم ستتحسن.
هذه إذن هي المشكلة- التي ألمح إليها هالدين ولكنه لم يتمكن من الاعتراف بها- مع نماذج التنبؤ التي يستعين بها بنك إنجلترا. فالأمور المهمة التي تؤثر على الاقتصادات تحدث خارج حدود الاحتواء الذاتي للنماذج الاقتصادية.