المسكيت.. بين الادعاء العام والمجتمع

بلادنا الأحد ٢٦/فبراير/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
المسكيت.. بين الادعاء العام والمجتمع

إعداد- نصر بن خميس الصواعي- رئيس ادعاء عام - مدير إدارة قضايا المخدرات

مما لا شك فيه أن الفطرة البشرية جبلت الإنسان على حب نفسه، إلا أنها جعلت في نواميس الحياة ما يقنن هذا الحب للنفس بما يكفل التناغم الاجتماعي التكاملي، وعليه أطرت هذا (الأنا) بحيث الزيادة فيها كالنقصان، فلا إفراط ولا تفريط، ومن باب الأنا المحمود في أبسط صوره تأتي أهمية بوحنا اليوم في هذه المساحة، حفاظاً على سلامة قالب الإنسان ومحتواه في شكله البسيط، ولما كانت السلسلة تقاس قوتها بقوة أضعف حلقة فيها؛ فإن ذلك كشأن المجتمع الذي يقاس بقوة أضعف لبنة أسرية فيه.

إن سعينا إلى طرح هذه المشكلة ليس مناقشتها بقدر استشعارنا محاصرتها لمجتمع كريم، فجميع البيوت عزيزة عن آفة تشبه شجرة المسكيت ولكنها غير آمنة، فلو تصورنا ما تفعله الأخيرة بقرية صغيرة في مصدر شربها وكلأها، وما قد يستطيع رجل واحد من أطراف القرية فعله في مواجهتها بمعوله الحديث دون تضافر كل من يقطن تلك القرية، فكذلك الحال بالنسبة لمواجهة مؤسسة أو اثنتين أو ثلاث لآفة المخدرات، (نعم آفة المخدرات) دون تضافر جهود كل من على هذه الأرض دون استثناء، فاليد الواحدة لا تصفق، وحتى لو صفقت، فاليوم ألمّت بجاري، لا محالة غداً في عقر داري -لا قدر الله لنا جميعاً- فتسرب واحد يكفي لغرق السفينة. ومن منطلق الإيمان المطلق بفاعلية المشاركة فيما يخدم المجتمع نجد لزاماً بداية الأمر أن نلفت النظر إلى تاريخ هذه الآفة، فمنذ زمن بعيد قامت الأبحاث والدراسات بدورها في استخلاص الأدوية من النباتات والأعشاب، وعلى غرارها فتحت المصانع ومراكز الأدوية وتم تصنيعها بما يخدم الأغراض الطبية والعلاجية، إلا أنه كما هو الحال شأن المقاول في البناء، الذي تعمد الهدم عندما انصرفت نيته إلى ذلك، فإساءة استخدام هذه المستخلصات من الأدوية والتركيبات، أو الأعشاب والنباتات ستؤدي إلى نتائج عكسية وما يتبعها من أمراض وأسقام. وقد عُرّفت المواد المخدرة بتعريفات عدة تشبه طبيعتها أو مؤداها أو نتائجها، ومن هذه التعريفات وأشهرها أنها: «كل مادة خام أو مستحضر تحتوي على عناصر مسكنة أو منبهة من شأنها إذا استخدمت في غير الأغراض الطبية المخصصة لها وبقدر الحاجة إليها ودون مشورة طبية، أن تؤدي إلى حالة من التعود أو الإدمان عليها مما يضر الفرد والمجتمع جسمانياً ونفسياً واجتماعيا». والإدمان على إحدى تلك المواد المخدرة كفيل بأن يصيب الفرد بحالة دورية أو مزمنة من التسمم تلحق به الضرر ومن ثم بالمجتمع، وينتج من تكرار تعاطي عقار طبيعي مثل: أوراق النباتات أو زهورها أو ثمارها مثل: الحشيش والقات والماريجوانا والأفيون الخام، أو مواد نصف طبيعية كعمل تفاعل كيميائي على تلك المواد الخام الطبيعية بهدف تقويتها، أو عقارات صناعية وهي ليست من أصل نباتي ناتجة عن تفاعلات كيميائية معقدة مثل: الكبتاجون أو السيكونال. ومن الملاحظ أنه فور وقوع الواقعة وضبط المتعاطي لهذه السموم كما جاء في تعريفها، فإن أول المصدومين بها هي الأسرة، حيث يفاجأ رب البيت الصغير باكتشاف الأمر من قبل البيت الكبير، وتنهمر الأسئلة والتساؤلات:

س/‏ هذا الاتهام غير صحيح؟؟ لا يمكن ذلك؟؟ ابننا- ابنتنا، أبونا- أمنا، زوجي- زوجتي، أخي- أختي، صديقي- صديقتي.. لا يمكن أن يكون مدمنا؟؟ هناك لبس في الأمر؟؟ هو متعلم لا يمكن!! هو صغير!! ذو مكانة اجتماعية!! راشد!! وآخرها لم نلحظ عليه ذلك؟!
وفي ذلك نقول دائماً إن للإدمان علامات تساعد الأسرة على اكتشاف المصابين بمرض سم التعاطي والمنكوبين بنار الإدمان من خلال السلوك والأعراض، وهنا من الأهمية بمكان التثبت وعدم التسرع في الحكم على الأشخاص إلا بعد انطباق العلامات المذكورة والتثبت من الحالة، ونسوق منها: على صعيد المدرسة يتسم مريض التعاطي بالهروب المتكرر منها أو التأخر صباحاً، أو في الغياب من دون أعذار، والانخفاض المفاجئ في المستوى الدراسي، أما الغذاء فغالباً ما يفقد شهيته للطعام، ويكون مضطرب المزاج وخاصة مع وسطه، ويميل إلى الانطواء المفاجئ، ولذلك يلجأ للكذب، والعداء لمن حوله؛ لأنه يشعر بالاضطهاد، كذلك الإصابة بحالات متقلبة كالضحك من دون سبب أو البكاء والشعور بالخوف، ويتبع ذلك توتر العلاقات مع من حوله تلقائياً من غير المصابين بالمرض ذاته، وهو القاسم المشترك بينهم، وبصورة أكثر وضوحاً فسيولوجيا، فغالباً ما يكون المريض بالإدمان محمرّ العينين من دون سبب، وكثير الحكّ في منطقة الأنف؛ نتيجة الجفاف، والرعشة الشديدة في الأطراف، والتعرّق، وهذا كله من الأرق الذي قد تسببه هذه السموم عند البعض، وأخرى تسبب النوم الطويل أي أنها تخل بنظامه الطبيعي ما يحدث تغييراً ملحوظاً.
كما يمكن للأسرة أن تلاحظ على المتعاطي إهماله لمظهره ونظافته، فيرى نفسه نظيفاً مهما كان متسخاً ظاهراً، فكمّ الأوساخ من السموم بداخل جسمه كفيل بأن لا يشعره بعدم نظافة هيئته.
وفيما يخص المقتنيات فيغلب عليه فقد الأشياء الثمينة بشكل واضح؛ نتيجة لجوء المدمن إلى السرقة لتأمين السموم التي يلوث بها نفسه، فتلك (الدراكولات) من مصاصي دماء البشر هدفها كسب المال مهما كان له السبيل دنيئاً وحقيراً، {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}، فلن يبثوا سمومهم بالمجان وإنما تمسكنوا حتى تمكنوا من فرائسهم، وبعد أن أوغلوا مخالبهم وأنيابهم المسمومة في طرائدهم همّوا في سلب روحها ورحيقها. أكدت أغلب الدراسات أن الفرد هو عدوّ نفسه حينما يتوجّه بذاته إلى حتفه والهاوية، ويختار مصيره بإرادته، إلا أن هناك بعضاً من المؤثرات النفسية التي تعمل على سرعة التفاعل ومنها:
عدم الاستقرار النفسي واختلال الدور الاجتماعي، وضعف التكوين العقدي والقيمي، كما أن لمرحلة المراهقة في حد ذاتها دوراً مهماً في ذلك، ووقت الفراغ، وتكمل عليها المشكلات الأسرية.
إلا أنه وجب القول في ذلك، هل نعطي المتعاطي العذر المحلل أو المخفف للتعاطي؟ بالطبع لا، ولكن يقودنا إلى القول إنه كيف على الأسرة أن تتعامل مع فردها المصاب بمرض التعاطي؟ وما يجب على المتعاطي فعله؟ فالقلق والخوف من مطرقة الملاحقة الجزائية له والزج به بين ردهات السجون وقضبانها يقود للتساؤل، هل يعاقب المدمن؟؟ إن القاعدة المتبعة بموجب القانون في سلطنة عمان وفي جميع دول العالم أن الدولة لا تعاقب المدمن الذي يسعى نحو العلاج وإنما تشجعه للعودة إلى جادة الصواب، وتقدر ظروفه، حيث نصت المادة (51) من قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (17/‏99) على أنه لا تقام الدعوى الجزائية على من تقدم من متعاطي المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية إلى السلطات العامة للعلاج في المصحة من تلقاء نفسه أو بطلب من زوجه أو أحد أقاربه من الدرجة الثانية، ولا يشمل ذلك من ضبط بتعاطي المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية أو حركت عليه الدعوى الجزائية بهذه الجريمة، وإن المتورطين في الإدمان يمنحون خلال فترة العلاج الضمانات التي تحميهم من التبعات، وتكفل لهم عدم خدش كرامتهم، وتكتم أسرارهم؛ محافظة على مراكزهم الاجتماعية، خاصة في بيئة ذات مناخ اجتماعي متراص كالمجتمع العماني، وذلك وفق صريح المادة (52) من القانون ذاته، ومتى كان المريض بالإدمان جاداً وراغباً في تطهير ذهنه وجسده من هذه السموم وجب عليه لزاماً المرور بمراحل التعافي من الإدمان وهي:
اكتشاف الحالة، ثم تشخيصها أو تقييمها، بعد ذلك إعداد طريقة سليمة تتفق وحالته، وعلى المريض إظهار الرغبة والتعاون الجاد والاستعداد للعلاج من مضاعفات الإدمان (الآثار الانسحابية) وقبل الأخير تغيير سلوكه وبيئته، وصولاً إلى التقييم الدوري لفاعلية الأسلوب المتبع في إعادة تأهيله.
وكل ذلك ليس له أي أهمية أو أثر إذا لم تكن للمدمن إرادة حقيقية و رغبة صادقة في أن يغير مصيره وهو الوفاة بجرعة زائدة- حتماً- وإلى أقرب حاوية قمامة ليلتقطه عامل النظافة صباحاً، ويوجع به كل من يحبه، ويوسمهم بوسم العار حتى جيل قادم أو اثنين، فبالإرادة والهمم والعمل الجاد تبنى الأمجاد وتتحقق الأهداف، وإن كانت السبل إليها من الصعوبات آلام وأوجاع آنية ستنجلي لا محالة بمجرد بلوغ الغنائم.
وبمطالعة عدد القضايا المسجلة خلال الأعوام الفائتة في محاولة لمكافحة هذه الآفة وما تشكله من منحدر خطير يجب أن نسأل أنفسنا هل نحن مستعدون للإبلاغ عمن قد نشك فيه أو نراه حول هذه الآفة إذ نستحضر ما قاله أحد مهربي السموم عند سؤاله في أحد محاضر الاستجواب عن ما إذا كان يتعاطى المواد المخدرة فأجاب: «هل أنا مجنون لأتعاطاها؟» نعم تلك كانت الإجابة «هل أنا مجنون؟» إذن هل يبيع السموم لمن يراه مجنوناً؟
ومن هنا نؤكد لكم أن العين الساهرة- شرطة عمان السلطانية والادعاء العام والقضاة لن يألوا جهداً في ضبط كل من تسول له نفسه المساس بأمن البلاد و تسميم من هم على أرضها، والسعي نحو توقيع أشد العقاب به، وقد جاءت المنظومة العدلية بضمان الوصول إلى عدالة ناجزة، بواسطة محاكمات عادلة، فلطالما طالعنا في الصحف- بتوفيق من الله- اكتشاف وضبط تجار السموم و مهربيها وسوُقهم إلى الادعاء العام؛ تمهيداً إلى التقرير بالإحالة بعد استجوابهم إلى المحاكم المختصة ليأخذ أصحاب الفضيلة القضاة- حبر الدولة- منهم شأفة المجتمع و يواسيه فيهم بما أجرموه، فقد تراوحت العقوبات بين الإعدام المطلق والعشر والخمس سنوات، كما حكمت على المتعاطين بعقوبات تأديبية وما رأته فيهم مناسباً من عقوبات بأنواعها لردعهم عن إتيان الفعل ذاته مستقبلاً حسب نظرية وفلسفة العقوبة وفي محاولة لإعادة استيعابه غرساً طيباً على أرض طيبة ينبت طيباً.
وختاماً لا يسعنا إلا الدعاء بأن يحفظ الله عمان وبانيها ومن عليها من شر هذه الآفة- آفة المخدرات- ولنعاهد أنفسنا أمام ربنا وليشهد علينا أننا لن نألوا جهداً في الذود عن الوطن والإبلاغ عن جحور الثعابين على رقم الخط الساخن لجهاز مناعتنا (1444).