إذ تـصــــبـح فلسـطـــيـن ضحية «أمريكا الجديدة»

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٤/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٤٠ ص
إذ تـصــــبـح فلسـطـــيـن ضحية «أمريكا الجديدة»

فهمي هويدي

الرياح القادمة من واشنطن لا تبشر العرب بأي خير لأن فلسطين مرشحة لأن تصبح أول الضحايا.

(1)

احتفال واشنطن بانتخاب الرئيس الأمريكي الجديد خطف الأضواء وصرف انتباهنا عن العرس المقام في تل أبيب بمناسبة بداية عهد «أمريكا الجديدة» التي تحتل إسرائيل في خرائطها موقعا أكثر تميزا من ذي قبل. ذلك أن الرئيس الجديد لم يتوقف منذ حملته الانتخابية عن توجيه رسائل الغزل والعشق لكل ما هو إسرائيلي. حتى دعا إلى حفل تنصيبه وفدا من قيادات غلاة المستوطنين، وأهدى إليهم سفيرا من أهلهم وفريقا من أنصارهم. ليس ذلك فحسب، وإنما إلى جانب محبته لهم فإنه لم يخف كراهيته للإسلام واعتزامه إقصاء المسلمين. وهو ما ظهر جليا في حفل تنصيبه الذي دعا إليه ممثلا للمسيحيين وآخر عن اليهود، لكنه تجاهل المسلمين ولم يدع أحدا منهم، ولا ينسى له أنه تحدث عن منعهم من دخول الولايات المتحدة، رغم أنه يحكم بلدا يعيش فيه أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، ويحتل الإسلام فيه المرتبة الثانية بعد المسيحية، تتقدمان في ذلك على اليهود.

(2)

لقد دأب بعض الحاخامات على وصف التطورات العربية المواتية لها التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة بأنها «معجزات» أهداها الرب لإسرائيل، إلا أن وصول الرئيس دونالد ترامب اعتبر في نظرهم «أم المعجزات»، لأنه سيحقق لإسرائيل ما لم يحققه لها السابقون. إذ يتوقعون في ظل رئاسته أن يختفي الحديث عن مشروع الدولتين الذي تحمس له سلفه الرئيس أوباما، كما توقعوا أن يطلق العنان للاستيطان وأن يعترف بإسرائيل دولة لليهود فقط، أما مسألة نقل السفارة إلى القدس فإن القرار فيها بات مفروغا منه ضمن مواقف أخرى تلغي القرارات الدولية التي تنتقد الممارسات الإسرائيلية.

إلى جانب ذلك فمعركته ضد الإرهاب ستتجاوز قمع المقاومة في فلسطين ومحاولة تركيع الفلسطينيين، وستصل إلى حد الدعوة إلى إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وإضاءة الضوء الأخضر الذي يتيح لإسرائيل قصف المنشآت النووية الإيرانية.
هذا الكلام ليس استنتاجا من جانبي، ولكنه تلخيص لما أوردته أغلب الصحف الإسرائيلية خلال الأسابيع الأخيرة، وأحدث ما قرأته في هذا الصدد، مقال نشرته صحيفة «معاريف» في 20/1 لجدعون ساعر الوزير السابق ومنافس نتنياهو على زعامة الليكود. إذ تحدث عن دلالات «الانعطافة الدراماتيكية لصالح إسرائيل في السياسة الأمريكية» كما نشرت صحيفة «يديعوت أحرنوت» مقالا في اليوم نفسه للجنرال عاموس يادين رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، تحدث فيه عن فرصة الضوء الأخضر لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
صحيح أن بعض الكتاب الإسرائيليين حذروا من المبالغة في التفاؤل بوصول ترامب، ومنهم من كتب في صحيفة «هاآرتس» مذكرا بأنه رجل أعمال تهمه الصفقات قبل العهود والمبادئ والأخلاق، ولذلك فإن المراهنة عليه ليست مأمونة العاقبة تماما. إلا أن الأصوات المحذرة تظل استثنائية وغير مسموعة وسط ضجيج التهليل لوقوع «أم المعجزات».
ورغم أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن معالم الانقلاب الذي يمكن أن يحدثه الرئيس الأمريكي الجديد في العالم، إلا أن ما أعلنه حتى الآن، حتى في خطبة استلامه السلطة جاء باعثا على التشاؤم في مختلف أرجاء العالم، بحيث لم يعد يرحب به سوى إسرائيل والأنظمة القمعية والاستبدادية حيثما وجدت.

(3)

كل المقدمات تشير إلى أن إسرائيل ستكون على رأس الفائزين في ظل ولاية ترامب. وإذا كانت نتائج حربه على الإرهاب مشكوكا فيها، كما أن استهدافه إيران واتفاقها النووي أمر له حساباته المعقدة، فإن حركته وفرصته في الملف الفلسطيني تبدو أيسر بصورة نسبية. حتى أزعم أن الرجل إذا لم ينجح في تنفيذ وعده باستعادة «عظمة» أمريكا التي كانت عنوانا لحملته، فلست أشك في أنه سيحقق الكثير لإسرائيل التي تتوقع عصرا ذهبيا أثناء ولايته. وما يحققه لن يكون راجعا إلى عبقرية فيه، وليس فقط لكفاءة الإسرائيليين في الابتزاز، ولكن بالدرجة الأولى لتدهور وهشاشة البيئة السياسية العربية المحيطة. ولئن كان الرئيس الأمريكي قد قوبل بخليط من الاستياء والحذر في العديد من أنحاء العالم، فظاهر الأمر أن مساحة الترحيب به من جانب أنظمة العالم العربي أكبر. سواء لعدم اكتراثه بملف الديمقراطية وحقوق الإنسان أو لتركيزه على موضوع الإرهاب أو لموقفه المعادي لإيران ولبرنامجها النووي.

إزاء ذلك فلا مفر من الاعتراف بأن المنطقة العربية ستشهد في المرحلة المقبلة أمرين، أولهما التفاعل الإيجابي مع مجمل سياسات الرئيس الأمريكي، وثانيتهما انكشاف حقيقة العلاقة بين أغلب الأنظمة العربية وإسرائيل. وهي العلاقة التي أحيطت بالغموض عمدا خلال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، ولكن ما هو غاطس منها بدأ يظهر بصورة تدريجية خلال السنوات الأخيرة.
في هذا الصدد بوسعنا أن نقول بأن العام 1979 كان فاصلا في اختراق جدار الصمت والرفض بين العرب وإسرائيل، إذ في ذلك العام وقع الرئيس أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجين، التي فتحت باب التطبيع السياسي بين القاهرة وتل أبيب، وفي العام ذاته أعلنت الثورة الإسلامية في إيران، التي أثارت مخاوف الخليجيين، الأمر الذي مهد للتواصل بين الأجهزة الأمنية في بعض الدول الخليجية وجهاز الموساد الإسرائيلي. وهذا الاختراق للمشرق استمر طوال السنوات اللاحقة، وإن ظل مقصورا على قناة الأجهزة الأمنية في حين كان جهاز الموساد قد مد أذرعه إلى المغرب وتونس في وقت سابق.
جرى تطوير تلك العلاقات بمضي الوقت بحيث شملت بعض المثقفين ورجال الأعمال وبعض مسؤولي الدرجة الثانية، إلى أن بدأ بعض المسؤولين الإسرائيليين يترددون على منطقة الخليج في مناسبات مختلفة. وإضافة إلى عملية التطبيع مع السلطة المصرية فإن لقاءات بعض المسؤولين الخليجيين مع الشخصيات الإسرائيلية صارت تتم علنا في بعض العواصم الغربية. افتتاح مكتب للوكالة الدولية للطاقة المتجددة شغله ثلاثة من الإسرائيليين في دولة ثالثة، إلى أن وصلنا إلى التنسيق السياسي فضلا عن الأمني بين إسرائيل وبعض الحكومات العربية، الأمر الذي فتح الباب لاتصالات مباشرة واجتماعات غير معلنة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية وبعض الزعماء العرب. عبر عن ذلك بنيامين نتنياهو أكثر من مرة، كان آخرها أمام الكنيسيت يوم 15 يناير الجاري حين قال إن بلاده تقوم بتوطيد علاقاتها العلنية والسرية مع دول المنطقة، وبعد ذلك بخمسة أيام (في 20/1) ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن رئيس الأركان الإسرائيلي يائير غولان التقى في بروكسل على هامش مؤتمر لحلف الناتو رؤساء أركان جيوش عدة دول عربية.
خلاصة ما سبق أن التطبيع بين إسرائيل وبين أغلب الدول العربية أصبح واقعا وأن لحظة الإعلان عنه باتت وشيكة ومشكلته الوحيدة أنه تطبيع مع أنظمة وحكومات وليس مع الشعوب العربية، والجهد المبذول الآن يستهدف إزالة تلك «العقبة».

(4)

يخدم ذلك الاتجاه ترويج وسائل الإعلام للادعاء بأن المعركة ضد الإرهاب ومواجهة التمدد والتهديد الإيرانيين يتقدمان على الخطر الإسرائيلي. وهو ما استثمرته إسرائيل حين ادعت بأنها تقف إلى جانب الدول «المعتدلة» في مواجهة الإرهاب وإيران. وذلك خطاب لم يخل من تدليس، لأنه غض الطرف عن جريمة الاحتلال الإسرائيلي وسجل الدول العبرية في الإرهاب الذي لا يزال يمارس حتى الآن بحق الفلسطينيين، علما بأنني لا أعترض على إدراج الإرهاب والتمدد الإيراني ضمن تحديات المرحلة، لكن اعتراضي منصب على تجاهل التهديد الإسرائيلي وتراجع أولويته في معادلة الصراع.

الذي لا يقل خطورة عن ذلك محاولة إفساد الوعى العام وتشويهه، لخلخلة صمود الجماهير العربية وإصرارها على أن تصنف إسرائيل في مقام العدو الذي لا يجوز التصالح معه إلا بإزالة جريمة الاحتلال التي يصر عليها ويتمادى فيها. لدي في هذا الصمود نموذجان. أحدهما مقال نشرته في 21/1 صحيفة «الحياة» اللندنية للكاتب الكردي السوري نزار أغري دعا فيه إلى ما أسماه إلى «عقلنة» النزاع مع إسرائيل، وما قاله إن إسرائيل كغيرها من الدول احتلت أراضي أخرى وقتلت أعدادا من البشر كما قتل العراقيون والأتراك والإيرانيون من الأكراد مثلا. وتجاهل الكاتب أن جريمة إسرائيل أكبر، لأنها اقتلعت شعبا بكامله من أرضه وأحلت مكانه شعبا آخر. وهو ما لم يحدث إلا في تجربة الأمريكيين مع الهنود الحمر.
النموذج الثاني مقال نشرته صحيفة «الشروق» المصرية في 16/1 لباحث يدعى الدكتور طارق فهمي الذي انتحل صفة أستاذ للعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ولا ذكر له بين أساتذة الجامعة. ودعوته مستمرة إلى الانتقال بعلاقات مصر مع إسرائيل من التطبيع إلى التحالف الاستراتيجي وحبَّذ في مقاله المذكور «تنمية علاقات مصر مع الولايات المتحدة من منطلق استراتيجي بالتنسيق مع إسرائيل والأردن في إطار مخطط أمريكي لبناء شراكة على أسس جديدة تضم مصر والأردن وإسرائيل»، الأمر الذي أدعى أنه يعطي لمصر دورا حيويا ومباشرا.
في القاع الذي وصلنا إليه ألغى الكاتب العالم العربي والقضية الفلسطينية ودعا إلى تحالف ثلاثي يضم مصر والأردن وإسرائيل في إطار مخطط أمريكي. لا أعرف من يمثل الكاتب لكن دعوته للانبطاح أمام إسرائيل والولايات المتحدة تعد جهرا بالفاحشة السياسية وتستدعي السؤال التالي: ماذا يسمي ذلك في مفردات لغة الضمير العربي؟.