كيف أشعلت أوروبا الشرقية الغرب؟

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٨/يناير/٢٠١٧ ٠٦:٢٩ ص
كيف أشعلت أوروبا الشرقية الغرب؟

ماسيج كيسيلوفسكي

مثل صعود الشيوعية السوفياتية والحربين العالميتين فإن الانهيار الظاهر للنظام الليبرالي الغربي سنة 2016 قد يصبح اضطراباً تاريخياً آخر بدأ في أوروبا الشرقية فشعار رئيس الوزراء الهنغاري فكتور أوربان والمتمثل في «الديمقراطية غير الليبرالية» قد تم تبنيه بسرعة من قبل الحاكم الفعلي لبولندا ياروسلاف كاسزينسكي، وهذا النهج قد نجح في اختراق قلب الغرب – أولا بالاستفتاء على الخروج البريطاني من المملكة المتحدة بريكست ومن ثم بانتصار دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وفي الوقت نفسه فإن الديمقراطية الوليدة في تركيا قد تراجعت لمصلحة حكم الرجل القوي لرجب طيب أردوجان كما يحكم الفلبين حاليا شخص سلطوي شعبوي هو رودريجو دوتيرتي وبينما نتجه نحو سنة 2017 فإن من الواضح أن الفساد قد أصبح ينخر في جسد الديمقراطية.
ربما يبدو من غير المرجح أن يصبح أوربان وكاسزينسكي- والإثنان تدربوا في مهنة المحاماة تحت ظل الأنظمة الشيوعية في بلديهما- من الرواد السياسيين أصحاب النفوذ العالمي ولكن مشروعهما السياسي يحمل جميع الخصائص التي عادة ما توصي بها أبحاث الإدارة من أجل التوصل لإستراتيجية مبتكرة ناجحة فمثل العديد من المنتجات الجديدة والعلامات التجارية التي تحظى بالشعبية فإن الديمقراطية غير الليبرالية لا تسعى لإرضاء كل الناس بل تستهدف مجموعة منتقاه بعناية من «الناخبين الزبائن» وتعطيهم بالضبط ما يريدونه.
عندما وصفت هيلاري كلينتون أنصار ترامب «بمجموعة من البائسين» فهي قد وصفت بدقة قطاعاً من السوق السياسي الذي يستهدفه ابتكار أوربان ولكن الديمقراطي غير الليبرالي لا يتكلم فقط مع الرجعيين المتلهفين لاستعادة التسلسلات الهرمية ولكن أيضا الناخبين من الطبقة العاملة الخائفين من البطالة والانحدار الطبقي. أما بقية المجتمع – الأقليات العرقية والدينية والأيدولوجية بما في ذلك «الطبقة الخلاقة» في المدن – فتصبح عندئذ المعارضة.
إن الديمقراطية غير الليبرالية تعمل على تخريب فكرة يحملها الديمقراطيون الاجتماعيون الأوروبيون والديمقراطيون الأمريكيون منذ حقبة الحقوق المدنية وهذه الفكرة تتمثل في أن الناخبين من الطبقة العاملة والأقليات يجب أن يشكلوا تحالفًا تقدميًا لمكافحة المحافظين. إن مثل هذا التحالف «نحن أقوى معا» هو تحالف منطقي من الناحية الفكرية لكن هذا التحالف ينطوي على ثلاثة عيوب رئيسية أستغلها أوربان وكاسزينسكي.
أولا، إن المصالح الاقتصادية للناخبين البيض أو المحليين من الطبقة العاملة والمصالح الاقتصادية للأقليات عادة ما تكون مختلفة لأنهم يتنافســـون مع بعضهم البعض على الوظائف والمنافع الاجتماعية وهذا الكلام صحيح على وجه خاص عندما يحول النمو البطيء الانقسامات على الكعكة الاقتصــــادية إلى لعبة فيها رابح واحد فعندما تكون الأموال محدودة هل يتوجب على الحكومة الهنغارية صرف الأموال على تعليم الأطفال من عرقية الروما أو إعادة تدريب العمال المشردين من العرقية الهنغارية؟
ثانيا، إن الناخبين من الطبقة العاملة عادة ما يلتزمون بالقيم التقليدية المحافظة فبينما يمكن إقناع مزارع في شرق بولندا أو عامل مصنع في متشيجان بدعم حقوق المثليين أو تمكين المرأة في مقابل إعـــادة التوزيع الاقتصادي فإن الناخبيـــن من الطبقة العاملة لم يدعموا مثل تلك القضـــايا بأعداد كبيرة.
إن الديمقراطية غير الليبرالية فعالة لأنها تفصل البضائع المرغوب فيها عن الإضافات غير المرغوب فيها وهو جوهر الابتكار التجاري الحديث وبينما تستطيع إيجاد سكن عن طريق موقع ايربنب بدون الإضافات غير الضرورية في الفنادق فإن الديمقراطيين غير الليبراليين يقدمون كذلك للناخبين من الطبقة العاملة المســــاعدة الاقتصادية بدون الإضافات المرتبطة بذلك والمتعلقة بالحقوق المدنية.
ثالثا، في العديد من المناطق الانتخابية يبدو أن أولئك المنتمين لأغلبية اجتماعية يفضــــلون تشـــوية سمعة الأقليات كقيمة حقيقية بغض النظر عن نقل الثروة وكما أظهرت آيمي تشوا من جامعة يال وغيرها أن استهداف الأقليات هو أداة فعالة جداً للتعبئة السياسية.
إن رؤية أوربان التي تبناها كاسزينسكي هي أن وجود تحالف غير ليبرالي يتألف من الطبقة العمالية والرجعيين الاجتماعيين يمكن أن يكون أكثر قابلية للحياة من المشروع التقدمي القديم وفي الوقت نفسه فإن هنغاريا وبولندا كانت دولا مثالية لتبني هذا الابتكار في مرحلة مبكرة وذلك لأن كلا البلدين متجانسين عرقيا مما يجعل الأقليات ضعيفة على وجه الخصوص.
لكن السياسات الديمقراطية غير الليبرالية يمكن أيضا أن تفوز بالانتخابات كذلك في مجتمعات متنوعة مثل الولايات المتحدة الأمريكية فمثل الكثير من المنتجات الناجحة فإن الديمقراطية غير الليبرالية تقدم للناخبين عرضًا واضحًا في أساسه فبخلاف الأجندات التقدمية فإن الرسالة غير الليبرالية يمكن فهمها ليس فقط لإنها عادة ما تكون بسيطة بشكل خادع ولكن أيضا لكون أن المجموعتين المستهدفتين بتلك الرسالة لديهما قيم ثقافية محافظة تعتبر منحازة بطبيعتها.
إن الديمقراطية غير الليبرالية يمكن أن تتجاهل القضايا التي تعتبرها غير ضرورية مثل حقوق الإنسان وحكم القانون فالشيء الضروري الوحيد لديها هو إرضاء الزبائن والذي يبعث على الدهشة أن الديمقراطيين غير الليبراليين لا يبدو أنهم يهتمون كثيرا بالنمو الاقتصادي فهنغاريا كان لديها اقتصاد قوي نسبيا بعد ركود سنة 2008 ولكن اقتصادها يتباطأ الآن وفي كل من بولندا وبريطانيا (بعد بريكست) فإن التكاليف الاقتصادية المرتفعة للديمقراطية غير الليبرالية تبدو واضحة بالفعل ولو نفذ ترامب ما وعد به من تجارة حمائية سنة 2017 فمن المرجح أن يدفع بالعالم بأكمله نحو الركود.
إن هذا يمكن أن يكون العيب المميت للديمقراطيين غير الليبراليين أو يمكن أن يمثل الرهان السياسي الأكثر جرأة بالنسبة لهم فبناء اقتصاد ديناميكي وخلاق في مجتمع مغلق قد لا يكون ممكنًا ولكن هذا لا يهم لو لم يعد الناخبون في البلدان متوسطة ومرتفعة الدخل يعتبرون النمو مهما مثل الهوية.
مثل المقعد السيئ في شركة طيران منخفضة التكاليف أو الإحباط الناتج عن تجميع أثاث إيكيا فإن القاعدة الانتخابية للديمقراطية غير الليبرالية قد يعتبرون الركود الاقتصادي ثمناً معقولًا يجب دفعه من أجل عالم مألوف وهو عالم تضمن فيه الدولة للمجموعة المهيمنة الشـــعور بالانتماء والكرامة على حساب «الآخرين».
إن أولئك الذين عاشوا في عالم أوربان وكاسزينسكي يدركون أن الديمقراطية غير الليبرالية ليست انحرافا مؤقتا فهي تحمل جميع الصفات المميزة لاستراتيجية سياسية مبتكرة تم التخطيط لها بعناية والتي يمكن أن تثبت استدامتها وربما بعد عدة عقود قد ننظر للوراء ونتعجب كيف تمكنت الديمقراطية الليبرالية بجميع تعقيداتها وتوتراتها الداخلية من الاستمرار لهذه الفترة الطويلة – ما لم يعد التقدميون أن سنة 2016 كانت بمثابة جرس إنذار وأن يبدأوا هم أيضا بالابتكار.

أستاذ مساعد للقانون والإدارة العامة في جامعة وسط أوروبا

ومؤلف مشارك لكتاب: الاستراتيجية الإدارية: دليل الإدارة
الإستراتيجية في الإدارة العامة.