رسمُ مستقبل الذكاء الاصطناعي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٦/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
رسمُ مستقبل

الذكاء الاصطناعي

لوتشيانو فلوريدي

نَظَرَ غاليليو، العالم الفلكي والفيزيائي الإيطالي الشهير، إلى الطبيعة على أنها عمل مكتوب بلغة الرياضيات يمكن حلّ شفرته من خلال الفيزياء. ربما كانت استعارته هذه امتداداً لمحيطه، لكنها حتماً ليست من محيطنا. فعالمنا يتكون من أرقام تجب قراءتها من خلال علوم الكمبيوتر، إنه عالم تقوم فيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI)، التي تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، بالعديد من المهام أفضل مما نقوم بها نحن.

لقد أصبحنا اليوم نتبادل المعلومات والاتصالات الإلكترونية مع وكلاء اصطناعيين أذكياء، مستقلين، واجتماعيين أيضاً. وبعض هؤلاء الوكلاء هم بالفعل أمامنا في الواقع، والبعض الآخر يظهر واضحاً في الأفق، لكن رغم ذلك لا يمكننا أن نتوقع ما ستكون عليه الأجيال اللاحقة. والمعنى الضمني الأعمق لهذا التغيير التاريخي هو أننا ربما لا نزال في بداية مسار جديد من التحول نحو عصر تتقاسمنا العيش فيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
إن وكلاء الذكاء الاصطناعي الذين جاؤوا بأشكال متعددة، مثل التطبيقات، والبرامج الإلكترونية، والخوارزميات، والبرامج بأنواعها كافة، والأشكال الصلبة، مثل الروبوتات، والسيارات بدون سائق، والساعات الذكية، وغيرها من الأدوات، أصبحت تحل محلّ الموظفين وتقوم بالوظائف التي كانت تُعتبر قبل بضع سنوات خارج حدود التكنولوجيا: في الواقع، لقد حلت التقنيات الرقمية والأتمتة على مدى عقود محل العمال في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية، وأصبحت تشمل الآن قطاع الخدمات أيضاً. وفي ضوء ما نشهده من اختفاء متزايد للمهن القديمة أو التقليدية، يمكننا أن نخمّن حجم التغيير الذي سنشهده في المستقبل، وعلينا أن ندرك مدى خطورته، وهذا الخطر يشمل العديد من الوظائف التي يقوم فيها الناس بدور الوسيط، مثلاً بين نظام تحديد المواقع والسيارات، والوثائق وتوفرها بلغات مختلفة، ومكونات الطهي والطبق النهائي، والأمراض والأعراض المرتبطة بها. لكن في الوقت نفسه، ستظهر فرص عمل جديدة، لأننا سنحتاج لوسطاء جدداً بين الخدمات المؤتمتة، والمواقع الإلكترونية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وغيرها. وسيكون على شخص ما التحقق من خدمة الترجمة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي وتقييم مدى دقتها على سبيل المثال.
والأكثر من ذلك، فإن العديد من المهام لن تكون فعالة من حيث التكلفة بالنسبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال، يزعم البرنامج الذكي الخاص بشركة «أمازون» أنه يتيح لزبائنه «الوصول إلى أكثر من 500 ألف عامل من 190 دولة»، ويتم تسويق البرنامج باعتباره شكلاً من أشكال «الذكاء الاصطناعي». لكن الواقع يشير إلى أن «العمال» في هذه الشركة ما زالوا يقومون بمهام تافهة، ويتقاضون مبالغ زهيدة.
أضف إلى ذلك أن هؤلاء العمال ليسوا في موقف يمكّنهم من رفض الوظيفة. والخطر هنا يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي سيواصل تفكيك مجتمعاتنا بين طبقات عليا تملك الكثير وطبقات دنيا تكاد لا تملك ولن تملك شيئاً. من هنا، علينا أن نبادر إلى تحفيز الشركات على أن تدفع المزيد من الأموال، وربما يكمن الحل في فرض ضرائب على تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وينبغي علينا أيضاً إيجاد التشريعات والأنظمة اللازمة للحفاظ على «إنسانية» بعض الوظائف المعيّنة. وبالفعل، فإن مثل هذه التدابير هي السبب وراء ندرة القطارات بدون سائق حتى الآن، على الرغم من إمكانية التحكم بها وإدارتها على نحو أفضل من سيارات الأجرة والحافلات التي تعمل بدون سائق. ومع ذلك، لا تزال تأثيرات الذكاء الاصطناعي غير واضحة تماماً على مستقبل الإنسانية، فبعض الوظائف القديمة ستنجو، حتى عندما تقوم الآلة بمعظم العمل: فالبستاني المكلّف بقطع الأعشاب بآلة جز العشب «الذكية» سيكون لديه المزيد من الوقت للتركيز على أمور أخرى، مثل تصميم المناظر الطبيعية أو إعادة تخطيط الحديقة. وفي الوقت نفسه، ستتاح لنا إمكانية القيام بمهام أخرى (مجاناً) كمستخدمين، مثل خدمة الدفع الذاتي في ممر الخروج من الأسواق والمتاجر المركزية.
من المؤكد أن كيفية تطور مثل هذه التقنيات لا تزال غير واضحة، لكن يمكننا أن نطمئن إلى أن الوكلاء الاصطناعيين الجدد لن يدعموا مخاوف من يحذروننا منهم، ولن يدخلوا في سيناريو الخيال العلمي البائس، الذي يفترض سيطرتهم التامة علينا، فهذا العالم الجديد لن يتحقق. إذ علينا أن نتذكر أن الذكاء الاصطناعي يكاد يكون تناقضاً لفظياً: التقنيات الذكية ستصبح في المستقبل غبية مثل سيارتك القديمة. وإن تفويض المهام الحساسة لهؤلاء الوكلاء «الأغبياء» هو في الواقع أحد المخاطر التي سنواجهها مستقبلاً.
في خضم البرمجيات العظيمة التي تجتاح هذا الكون، سنبقى عبارة عن مخلوقات صغيرة جميلة، وسيصبح الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر مكوناً طبيعياً من حياتنا.

أستاذ الفلسفة وأخلاق الإعلام في جامعة أكسفورد